إيزابيلا حماد: إعادة اكتشاف فلسطين بالفن

mainThumb

13-09-2025 12:39 AM

تصل إلى مطار تل أبيب، وتجد نفسها خاضعة للتحقيق.. يجري تجريدها من ثيابها، وتتعرض إلى التفتيش، رغم أنها تحمل جواز سفر بريطانيا. ورغم أن والدها من فلسطين، وقد قضت شطرا من طفولتها في البلاد. لكن جواز سفرها ليس حصانة، وأصولها لم تفدها في شيء. مع ذلك لم تكترث للأمر، لم تطل التعليق عما وقع لها، لأنها سوف تواجه في الأيام التالية مشاهد أكثر سوءاً مما عرفته في المطار. أبعدت عن بالها كل شيء من شأنه أن يعكر مزاجها. فقد عادت إلى فلسطين من أجل قضاء إجازة، وكذلك من أجل ملاقاة من تعرفهم، والشيء الآخر الذي جاءت من أجله، أنها تنوي التعافي من محنة عاشتها في إنكلترا. وبعدما استلمت حقيبتها، عرجت على عكا. ودت أن تطل على البحر. أن ترى مشهداً يمحو من بالها ما حصل في المطار. قبل أن تتجه إلى مقصدها، إلى بيت شقيقتها حنين في حيفا، التي تعمل أستاذة في جامعة إسرائيلية، جاءت إليها في زيارة بعد غياب طويل.

منذ الانتفاضة الثانية (2000)، لم تطأ قدما سونيا البلاد، غابت عنها لكن لم تُمحَ من بالها صورها. مع ذلك فإن هذه الرحلة التي أرادت منها محاولة في إعادة ترتيب الماضي، من أجل تجميع الذاكرة، سوف تتحول إلى قضية سياسية. رحلة استجمام سوف تجعل منها سونيا سببا في معيشة المحن التي يحيا فيها فلسطينيون. ولكنها سوف تستعين بالفن في التعبير عن هذه المحن، سوف تستخدم المسرح من أجل أن تروي حكايات فلسطينية، كما تروي الصدامات وتشابك الأوضاع مع الإسرائيليين. هكذا تخوض سونيا ناصر في شؤون بلد أجدادها، وتروي حكاياتها في رواية «أدخل أيها الشبح» لإيزابيلا حماد، التي صدرت أخيرا في ترجمة فرنسية عن دار غاليمار، بعنوان آخر «هاملت على طول الحائط». وهو عنوان أكثر ملاءمة للنص. لأن هذه الرواية تستعين بمسرحية هاملت، من أجل فهم وتفسير الصدامات التي تجري بين فلسطينيين وإسرائيليين، من أجل تعرية الواقع السياسي وتحويله إلى مشاهد فنية.
في هذه الرواية يتقاطع الشأن العام مع الشأن الخاص، تتقاطع حياة الراوية مع حياة الفلسطينيين، الذين يعيشون بين الداخل والشتات، مثلما تعيش في غربتها مسكونة بالبلد الذي جاء منه والدها. رواية يتشابك فيها الواقع مع المتخيل، من أجل أن ترسم مشهداً متعدد الأبعاد، عن تقلبات الحياة الفلسطينية، وكذلك تقلبات الراوية سونيا ناصر، التي فشلت في الزواج، مثلما فشلت في الإنجاب، مثلما فشلت في علاقة حب في إنكلترا، فقررت أن تمحوها من بالها، بسفرها إلى حيفا، وتقابل فشلاً آخر، في عجزها عن مساعدة الآخرين في تغيير الوضع، لكنها تنجح في أمر آخر، فبحكم أنها ممثلة مسرحية، لها سمعة لائقة، سوف تشارك في مشروع لم تخطط له، لكنه سوف يغير نظرتها لفلسطين، وهو مشروع إخراج مسرحية هاملت، مع شبان من المسرحيين، ومن الهواة القادمين من أصول مختلفة، من توجهات فكرية متعددة. كل واحد منهم يموج في فكرة مخالفة عن فلسطين، لكن المسرح سوف يجمع بينهم، ويشاركون في طرح منظور فني للبلد وما يعيشه، في الأراضي المحتلة وكذلك بين فلسطينيي 48. سوف يصير المسرح سببا في إعادة اكتشاف فلسطين.

عندما تلتقي سونيا مع مريم صديقة شقيقتها، سوف يتبلور المشروع. يبدأ من فكرة ومن حوار، وتتخمر الفكرة في بال سونيا، التي لا تعلم جدوى مسرحية في أرض محتلة، وتتساءل عن جدوى الفن في الزمن الفلسطيني، وماذا بوسع الفن أن يفعل من أجل إخراج الناس من الحالة الشاقة التي يعيشون فيها. في البدء تتردد في قبول المشروع، تشعر بعدم جدوى المسرح إزاء ما يحصل، لكن شيئا فشيئا سوف تتغير فكرتها، سوف تغامر، وهي لا تعلم مآل المغامرة. وهذه المسرحية سوف تعينها في إعادة الربط مع بلاد والدها، كما تساعدها في التداوي من خيبات الحب، التي جلبتها معها من إنكلترا. هكذا تنتقل من مسرح على الخشبة إلى مسرح الحياة. يتحول المشروع من أجل إخراج مسرحية إلى الخروج إلى الحياة ومواجهتها، لكن إخراج مسرحية ليس عملا هينا في مكان مثل فلسطين، سوف يصادفهم الكثير من العقبات، بدءاً من معضلة الحصول على التمويل. وتجد الراوية نفسها متورطة في البحث عن مصدر تمويل، وفي التعامل مع الممثلين. يجري حل المشاكل التقنية كذلك، لكن عندما تكتشف السلطات الإسرائيلية مشروع المسرحية، سوف تنقلب الأمور، ولا تسير كما ترجوه الراوية ورفاقها. مع ذلك يصرون على المضي في عملهم إلى أبعد حد.
لم يكن اختيار مسرحية هاملت اختياراً عشوائيا، لأن مسرحية شكسبير تدور حول مفاهيم يصلح إسقاطها على ما يجري بين إسرائيل وفلسطين، إنها مسرحية تدور حول الصراع على السلطة، الخيانة، الانتقام والعدالة، وهي عناصر يمكن إسقاطها على الواقع بين الطرفين. في المسرحية، يعيش هاملت في بيئة مشحونة بالمكائد والتوتر بين الأقارب والحكام، ما يخلق حالة من عدم الثقة والخوف المستمر، وهو ما يشبه التوتر السياسي والاجتماعي في المنطقة. الصراع على الأرض والهوية، الإحساس بالظلم، والرغبة في تحقيق العدالة أو الانتقام، يجعل الأحداث الرمزية في هاملت قريبة مما يدور بين فلسطين وإسرائيل. المسرحية تسمح بفهم التوتر النفسي والاجتماعي الناتج عن الصراعات المستمرة، وتطرح أسئلة عن الأخلاق والعدالة في ظروف النزاع. كما إن هذه الرواية مسكونة بأشباح الماضي، مثل شبح الملك هاملت، إنها رواية تبحث عن الحقيقة، ولا تدعي الوصول إليها، مثلما تبحث مسرحية هاملت عن الحقيقة كذلك.
يضاف إلى ذلك أن رواية إيزابيلا حماد، كتبت في فصول منها وكأنها نص مسرحي، في الحوارات بين الشخصيات، وكذا في المناجاة التي تخوض فيها الراوية. فهي رواية عن الذاكرة والسفر في المكان، هي رواية اكتشاف الذات وإعادة اكتشاف فلسطين. وفي واحد من المقاطع تسرد الراوية ما سمعته من جدها، في تسجيل عثرت عليه ويعود إلى عام 1994، عندما يقول: «إن لم يطل عمري، فإن روحي سوف تستفيق في حال قامت دولة فلسطينية». وهي أمنية لم تتحقق في زمن الأب، وترجو الراوية أن تتحقق في حياتها.

كاتب جزائري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد