تزويغ المفردات بين الأوهام والتداعيات
في قاموس الوحشية البشرية كثير من المفردات الدالة على بشاعة قتل الإنسان للإنسان، مثل الملحمة، المذبحة، المحرقة، الإبادة، الاغتصاب، التطهير العرقي. وجميعها تنطبق على ما يجري في غزة الآن خاصةً، وفلسطين في كل آن. الأمر الذي يجعل الاستمرار في تداول تعبير(القضية الفلسطينية) غير دالٍ ولا وافٍ بالتعريف بما يُراد التحدث عنه والبتُّ فيه. ذلك أنَّ ما يجري اليوم على أرض فلسطين ليس مجرد حديث عن صراع بين طرفين غير متكافئين، ولا هو مشروع ينبغي كشف أغراضه أو العمل ضده، ولا هو حرب نظامية يسعى المفاوضون إلى إيقافها بقرارات أو تسويات دولية؛ وإنما الجاري في الأساس ــ وتعميما لفعل النازيين ــ هو (محرقة فلسطينية) يؤجج الصهاينة نارها كل يوم بمساندة نظام عالمي إمبريالي توسعي، يريد أن ينفِّذ ــ من خلال احتلال غزة والضفة الغربية وسائر المدن الفلسطينية ــ مخططاته في الاستحواذ، لا على ثروات ومقدرات المنطقة العربية وحدها، بل معهاالشرق كله.
ويلعب الصهاينة في هذا المخطط دور الأداة المنفِّذة والقامعة التي تعمل منذ أكثر من مئة عام على تحقيق هذا الحلم الإمبريالي. وبسبب ذلك، عانى الفلسطينيون ولا يزالون يعانون من الاحتلال والاعتقال والمنع والتجويع والمصادرة والتعدي بالقوة الغاشمة. ما يجعل المسؤولية الأخلاقية تجاههم– بعد أن غدت فلسطين محرقة لشعب بكامله- لا تقف عند حدود الدفاع عنهم بوصفهم (قضية) تُطرح على طاولة النقاش السياسي أو تُعرض أمام الهيئات والمنظمات بحثا عن حلول مقبولة أو واقعية، بل فلسطين اليوم محرقة ظاهرا وباطنا. تشهد على جمر اتونها جموع البشر في كل حدب وصوب، حتى تأكد لهذه الجموع أنَّ احتلال فلسطين استعمار استيطاني.
ومن المثلج للقلب أنَّ الرأي العام العالمي، صار يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وهو يرى بأم عينيه في كل يوم كيف أنَّ المحرقة تستنزف طاقات ومكونات هذا الشعب، وتضيع حقوقه التي غيبتها برامج وسياسات ومعاهدات وتحالفات وحلول تسوية لا واقعية، لم تسفر إلا عن مزيد من استعار المحرقة الفلسطينية.
وإذا كانت هذه المحرقة غير جلية للعالم في زمان مضى كانت فيه كاميرات الإعلام وشاشات التلفزة لا تنقل إلا ما يُطلب منها نقله، فيبقى هذا العالم بعيدا عن إدراك أتون هذه المحرقة المضطرمة في قلب الوطن العربي على مدى العقود السبعة الماضية، فإن وسائل التواصل وما فيها من وسائط افتراضية استطاعت إيصال الحقيقة، وها هي تنقل وتتداول صورا ومشاهد مرعبة ورهيبة للمحرقة التي لا حدَّ لها، ولا عدَّ ينفع معها. وما من خيال قادر على مضارعة الشر الصهيوني في إيقادها. خذ مثلا مشهدا تناقلته مؤخرا وسائل التواصل الاجتماعي، وفيه يظهر رجل مسن يقف على بُعد منه أبناؤه وربما أحفاده، وهو يواجه الصهيوني النزق بملابسه المدنية وسلاحه الآلي الرشاش، وخلفه جرافتان يقودهما اثنان يشبهانه. ويطلب هذا النزق بعنجهية باردة من الرجل المسن أن يترك الأرض ليفعل بها ما يشاء، فيرفض الأخير قائلا: (لن تأخذ أرضي، لن تقتلع أشجاري). ويتصارع بيدين مجردتين مع الصهيوني الذي بادر سريعا ومن دون أدنى وجل إلى إطلاق الرصاص عليه، فوقع الرجل صريعا في الحال. وهنا دوت صرخات الأبناء أو الأحفاد، وساحت الدماء تروي الأرض.
يتكرر هذا المشهد بأشكال مختلفة عشرات المرات في اليوم الواحد، وجميعها دالة على محرقة منظمة عنوانها البطش والإرهاب، وغرضها إبادة الفلسطينيين، ومحو آثارهم. وهو ما كان الغرب الاستعماري يغطي على بشاعته بالتزويغات اللفظية حتى خدع العالم على مدى العقود الماضية، لكن ذلك التزويغ انكشف، فغدت إسرائيل مُدانة بوصفها (الرعب – الرعب) كما يقول السيد كورتز في رواية «قلب الظلام». ولم تعد أثواب الصهيونية المزوقة التي صنعتها لها ماكينات الإعلام الامبريالي قادرة على سترها. وكان من تداعيات هذا الانكشاف، الحملات العالمية الكثيرة المنظمة وغير المنظمة لقطع العلاقات مع الشركات الإسرائيلية، وفضح أساليب التمييز العنصري الذي يمارسه جيش الاحتلال الصهيوني.
لقد صار القاصي والداني يسمع صوت شعبنا في فلسطين، ويعرف أن الاعتداء عليه جرى تحت خيمة قرارات دولية شرعنت استلاب أرضه وتشريد أبنائه، ومع ذلك بقي صابرا صامدا. وتجلى صموده بوضوح مع حصار غزة الذي يذكرنا نحن العراقيين بحصار التسعينيات الجائر الذي خُطط له وتَمَّ تنفيذه في شكل قرارات دولية، زوَّغت المفردات فشرعنت الاعتداء على شعبنا وتخريب ممتلكاته وتعطيل بنيته التحتية تحت يافطة (برنامج النفط مقابل الغذاء). فقاسينا على مدى أكثر من ثلاثة عشر عاما شرور نقص الغذاء وشحة الدواء. وحُرمنا من كل لوازم الحياة، فتراجع مجتمعنا وتضررت مؤسساتنا. ولأن شبكة الإنترنت لم تشملنا، صرنا معزولين لا يعرف العالم الجريمة التي ارتكبت في حق أهلنا. ودفعنا من أعمارنا ومقدرات بلادنا ثمن التمويه اللفظي الذي غطى السياسات الاستعمارية وجعلها شرعية. وعرفنا أكثر من غيرنا ماذا يعني تزويغ المفردات من قبل الماكنة الإعلامية التي قادت حربا ناعمة، راح ضحيتها العراقيون الأبرياء، وحققت للأسف ما لم يحققه جيش عرمرم.
لقد احترف الإمبرياليون أساليب خاصة في تزويغ المفردات التي تخدع الرأي العام، فبوش كان يكثر في حربه على العراق من استعمال مفردات (الخير والديمقراطية والسلام) في عبارات مثل (لسنا على خصام مع الشعب العراقي) أو (نصرة الخير على الشر لأجل أن ننشر القيم الديمقراطية في كل أنحاء العالم) في الوقت الذي كان يرسل الصواريخ إلى بغداد.
ويسير نتنياهو اليوم على الطريقة ذاتها، فيستعمل تعابير (مفاوضات فورية) و(إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين) و (إنهاء الحرب وفق الشروط المقبولة لإسرائيل) مظهرا نفسه بمظهر الضحية، وأنه واقع تحت ضغوط شعبية. وفي الوقت الذي فيه تعلن الأمم المتحدة أنَّ المجاعة في غزة حقيقية، يَظهر هو بمظهر المكلَّف برسالة إلهية في صناعة (إسرائيل كبرى)!
إن هذه الطريقة التي بها تُستعمل المفردات والعبارات بطريقة ماكرة، هو ما كان المفكر الكبير إدوارد سعيد قد أولاه اهتماما بالغا. وعدَّ ذلك مسألة خطيرة بسبب ما يبنى عليها من مغالطات، تشرعن القرارات الدولية الظالمة، وتجعلها قانونية. وتخلق سوء فهم في توصيف معاناة الفلسطينيين وتكوين نظرة سلبية تجاههم، فتصورهم كأناس غير متطورين ومن حق إسرائيل استثمار أرضهم. ومن تلك المفردات والعبارات، الإرهاب ومعاداة السامية التي لم تستعمل ضد الذين يستعملون الخطاب المعادي للعرب الذي هو معاداة للسامية أيضا.
إن الأهمية الخطيرة للطريقة البراغماتية التي بها تُوظف المفردات في السياسة العالمية، توجب علينا أن نعيد قراءة منظومة المفاهيم التي صدَّرها الغرب إلينا، وجعلنا ندير ظهورنا عن مفاهيم الجهاد والقومية والعروبة والتحرر والنضال في مقابل إيهامنا – تحت تأثير الدراسات الثقافية – بمقولات التفكيك واللامركزية وهيمنة الهامش وتعدد الهويات وما بعد الاستعمارية وغيرها من المقولات التي نتصور أنها حقيقية، وأن الغرب الاستعماري طبَّقها أولا على فكره ومؤسساته. وأراد في الأخير، أنْ يقدم لنا خلاصة تجاربه الثقافية، كي نفيد نحن العرب منها! وهذا – وليس غير هذا – وهمٌ كبيرٌ، خُدع الكثيرون به، ولا يزالون يخدعون.
ولقد ضرب إدوارد سعيد مثلا للمثقفين المخدوعين أي الواقعين تحت تأثير النفعية الأمريكية بفؤاد عجمي وكنعان مكية وغيرهما من الذين كانوا يقولون: «دعونا نكف عن التحدث عن شرور الإمبريالية والصهيونية دعونا نبدأ بالتحدث عن الجروح التي سببناها لأنفسنا». ويعلق سعيد عليهم بالقول: «إنه اعتراض مضخم على الذات. والذي أستنكره بشكل عميق، وكأن الاستعمار أمر لم يحدث أبدا وأن المذابح لم تحدث أبدا، وكما لو أن التطهير العرقي لم يحدث أبدا. إنني أظن ذلك أمرا شائنا لايطاق»، كتابه: «الثقافة والامبريالية، ص161».
ونشهد اليوم للأسف كثيرا من أمثال هؤلاء موجودين بيننا ومأخوذين بما تصدره المنظومة الغربية من أفكار، يحسبونها تنويرية وهي في حقيقتها إمبريالية، فمجموعة تردد نغمة وهم المؤامرة، ومجموعة تقول: هل بقى في غزة صمود أو نضال؟ ومجموعة ثالثة تتهم من يتحدث عن المقاومة والكفاح بالانغلاق والافتراضات الظنية والتعصب والحماسة المفرطة. ورابعة تتهم من يتحدث عن عنصرية النقد الغربي بالإقصاء المتعمد للآخرعلى أساس أنَّ هذا الآخر دخل في مراجعة شاملة لنفسه بدراسات ما بعد كولونيالية!
وثمة المزيد والمزيد من هذه الأوهام، وفيها الدليل القاطع على ما يؤديه تزويغ المفردات من دور خطير في التعمية والتمويه، فتترسخ القناعة الزائفة في أدمغة الكثيرين إلى درجة يصعب معها اقتلاع تلك المقولات منها،حتى أنَّ أي حديث مع هؤلاء الواهمين خارج مواضعات تلك المقولات هو أشبه بالنفخ في قِرب مثقوبة.
*كاتبة من العراق
الجامعة العربية: قمة الدوحة محطة بارزة للتضامن مع فلسطين
أبو الغيط: العدوان الإسرائيلي على قطر جمع بين الجبن والغدر
دور نشر أردنية تشارك في معرض بغداد الدولي للكتاب
رئيس وزراء قطر: العدوان الإسرائيلي يجهض مسار التفاوض
وزير الأوقاف يتفقد سير العمل في مستشفى المقاصد الخيرية
التربية والشباب تعقدان جلسة تعريفية بجائزة الحسين بن عبدالله الثاني
بدء محادثات تجارية بين الصين والولايات المتحدة في مدريد
الصحة الفلسطينية تتسلم شحنة أدوية من الهند عبر الهيئة الخيرية الهاشمية
الأردن ضمن برنامج تمويل أخضر بقيمة 634 مليون دولار
وزير الشؤون السياسية يلتقي جماعة عمان لحوارات المستقبل
مدير المعهد المروري: هذه المخالفة تستوجب العقوبة القانونية
وظائف شاغرة وامتحانات تنافسية .. أسماء
ارتفاع جديد في أسعار الذهب محلياً اليوم
أسرار حجز تذاكر طيران بأسعار مخفضة
خبر سار للمكلفين المترتبة عليهم التزامات مالية للضريبة
عمل إربد تعلن عن وظائف وإجراء مقابلات بشركة اتصال
الخضير أمينا عاما للسياحة واللواما للمجلس الطبي وسمارة لرئاسة الوزراء
سعر الذهب عيار 21 في الأردن اليوم
الصفدي يلتقي وزير خارجية كرواتيا في عمّان اليوم
قيادات حماس التي استهدفتها إسرائيل في الدوحة .. أسماء
هل مشاهدة خسوف القمر مضر للعين
الصحة النيابية تطلع على الخدمات بمستشفيي الإيمان