الإضعاف الممنهج قبل التدمير

mainThumb

17-09-2025 10:27 AM

وماذا بعد كل هذه الانهيارات العربية المتتالية، المبرمجة منذ عشرات السنين، التي لم تنفذ منها لا دولة عربية غنية ولا فقيرة؟ سقطت بلاد عظيمة مثل العراق، كقوة عسكرية ودولة بمؤسسات قائمة (بغض النظر عن النظام المتسلط) وضربت الدولة في مقتل، بحيث لن تقوم لها قائمة. ودمرت مؤسساته، وتم تفكيك برنامج العراق النووي المزاحم لإسرائيل. خط أحمر، وما يزال حتى اليوم، أن تظل السيطرة الكاملة للكيان الصهيوني. أدخل العراق بعدها في حروب طائفية مدمرة تم تصنيعها من خلال تمزقات تاريخية داخلية عملت الأجهزة الاستخباراتية على توسيعها، انتهت باغتيال رئيس دولة عربية ومسلمة (فجر عيد الأضحى) اعتماداً على قوى خارجية، بيد عراقية ظاهرياً. اليوم تتضح خطوط المسرحية كلها، المرتبطة بمشروع أوسع يتجاوز العراق ويصب في نظام عالمي جديد كان في التكون.
سقطت سوريا قبل فترة قصيرة، بشكل مفجع وغير محسوب في ظل تجاذبات دولية: إسرائيلية، تركية، روسية، وأمريكية. بعد هروب رأس النظام وترك سوريا عارية من أي إمكانية للمقاومة. لم يتسلم السلطة الجيش السوري الحر، ولكن إسلامي مطلوب أمريكياً برأس يساوي ملايين الدولارات، على ظهره تهمة الإرهاب. شيء يصعب تصديقه؟ في أولى أيام سقوط النظام، تم تمديد الحدود الإسرائيلية السورية، ثم الاستيلاء على قمم جبل الشيخ، تم بعدها تدمير الترسانة العسكرية السورية، لا مدافع النظام ردت ولا طائرات الحليف الاستراتيجي الروسي استطاعت أن تفعل شيئاً، حتى الأخ الإيراني ظل مشدوهاً في المشهدية التراجيدية؟ لا أتحدث عن ليبيا التي حولها الطيران الفرنسي واستشارات عراب الصهيونية برنارد هنري ليفي BHL، إلى أشلاء بحجة الدفاع عن سكان ابن غازي. ولا السودان التي فصل جنوبها عن شمالها، قبل الدخول في حرب أهلية مدمرة ما تزال الى اللحظة تحصد الآلاف من الأرواح البريئة. سياسة تدميرية لكل الكيانات المستقرة باسم ديمقراطية الحراب والسكاكين والمحو.
اليوم، وفي إطار سياسة التفكيك العربي أو سايكس- بيكو جديد، الخوف الكبير على مصر التي تملك ترسانة عسكرية قادرة على الدفاع عن النفس، لكن من الصعب ضمان حياد أمريكا وأوروبا في عالم غير متوازن. والجزائر الموضوعة في مرمى القنص، تحاول تسيير الأزمات في انتظار عودة التوازنات الدولية الأمريكية- الأوروبية- الروسية- الصينية.
لكن منطق التحالفات سيكون مغايراً؛ لن يبنى على الأيديولوجيا، ولكن على المصلحة. لا توجد صداقات، فالمصطلح لم تعد له أي قيمة عملية، أصبح خاضعاً للحسابات المصلحية والاستراتيجية. إذا كانت الصين، وفق بعض التحاليل العسكرية الدولية، قد ساعدت [باعت] إلى إيران بعض الأسلحة الدقيقة والتكنولوجيا العسكرية لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية، لم يكن ذلك نابعاً عن أيديولوجيا مشتركة، ولكن من موقع حسابات استراتيجية بحتة. الصين لا تريد أن تخسر مورداً مهماً للطاقة.
الخوف على مصر والجزائر مبرر جداً؛ فالقوتان المتبقيتان المبرمجتان للتدمير عن طريق ثورات مفتعلة أو تدخلات عسكرية يتم التهييء لها لتسهيل تقبلها أمام الرأي العام العالمي. التفكيك الداخلي سيعتمد السياسة التي تحمل خطاب «التغيير» ويرتكز على الخلافات الإثنية والثقافية والجهوية التي يتم تضخيمها.
وغزة في هذا المشهد العربي الديستوبي، ماذا تعني؟ تظل «غزة» نموذجاً اختبارياً ومشهدياً، بالنسبة للاحتلال والعرب: انظروا ماذا ينتظركم إن أنتم فكرتم في مقاومة إسرائيل؟ أنظروا درجة التدمير إلى أي حد يمكن أن تصل، في ظل صمت عالمي معتم باستثناء المجتمعات المدنية التي أصبحت غزة قضيتها، كما الحالة الإسبانية. التدمير الكلي ماركة مسجلة لإسرائيل ضد كل من تسول له نفسه الخروج عن الهيمنة الإسرائيلية التي تشكل اليوم أهم سلطة مدمرة في المنطقة. كل ما شيده العرب من قيم حضارية مادية، ومن أبراج زجاجية عالمية، يمكن أن يتحول في ثانية كعصف مأكول، بل إزالة كل مظاهر التحضر.
ندرك سلفاً أن التفوق العسكري والتكنولوجي بين العرب والكيان الصهيوني كبير، يضاف إلى ذلك أمريكا التي لا يعني لها العرب أي شيء. العربي والمسلم بشكل عام، لا يساوي جناحي بعوضة، وهو ما نسمعه يومياً من فمي ترامب ونتنياهو الذي أصبحت الحروب واستمرارها قاربه للنجاة من المحاكم الإسرائيلية والدولية. لم يعد أي ناظم دولي وإنساني يحكم إسرائيل. فقد أبدعت، في سياق فكرة إزالة الدولة، التقتيل الجماعي الإرهابي [إرهاب الدولة] للقيادات خارج أي منظومة أخلاقية. قيادات حزب الله، وإيران، واليمن، المحاولة الفاشلة ضد قيادات حماس في الدوحة بدون حساب للدولة المضيفة للمشاورات، بحثاً عن حل للمحتجزين وإنهاء الحرب. هذا التقتيل الإرهابي فضح إسرائيل، ولكنه أظهر حدوده بشكل واضح في إيران مثلاً. كانت البدائل العسكرية سريعة أوقفت عربدة نتنياهو ودفعته إلى تقبل توقيف الحرب.
أطماع إسرائيل لا حدود لها أبداً في ظل وهم توراتي لإسرائيل كبرى؟ وليست الضربة الجبانة والخادعة ضد قطر إلا علامة أمام كيان همجي لا يحكمه لا قانون ولا أخلاق. قانون الغاب الذي يسطره اليوم بالتقتيل المبرمج في غزة قصفاً وتجويعاً لإعطاء الدرس لعرب لا حول ولا قوة لهم إلا الصمت وانتظار الدور أو التفكير في بناء ترسانة دفاعية لن تكون سهلة في ظل اختلال التوازنات الدولية.
أعتقد أن النازية ستخجل أمام جرائم نتنياهو الذي يعرف سلفاً أن لا قوة تهزه اليوم في ظل التمزق العربي، ولم يعد يأبه بالخطابات الجوفاء لقادة دول أوروبا باستثناء إسبانيا شعباً وحكومة. لقد وجد نتنياهو وفريقه الإجرامي الحل السحري للجم أوروبا. يشلهم بكلمة واحدة شكلت لهم عقدة ذنب تاريخية: «معاداة السامية» حتى لو لم يكن لردود فعلهم علاقة بذلك.
ما لا تدركه إسرائيل اليوم أنها خلقت أعداء حقيقيين من فلسطينيين وعرب وعبر العالم. كراهية «اليهودي» ستتسع، والناس البسطاء لا يفرقون -للأسف- بين الصهيوني المجرم واليهودي المسالم وحتى المتعاطف مع الحق الفلسطيني. السنوات القادمة ستكون ظلاماً.
إذا كان بعد كل ما حدث من تدمير وتمزق لا نستطيع توقع القادم ونتهيأ له، فنحن نملك قوة الطاقة والغنى، هذا يعني أن أمراً فيناً، ربما في عقلنا أيضاً، ليس على ما يرام. إسرائيل قوة احتلالية توسعية غاشمة في المنطقة، بنت قوتها على الحديد والنار بتعاون أمريكي أوروبي واضح، كان يريد أن يتخلص من عقدة تاريخية كبيرة اسمها «الهولوكوست ومعاداة السامية» صنعتها المؤسسات الدينية والسياسية الأوروبية وليس العرب. العرب أنفسهم كانوا الخاسر الأكبر في الحربين العالميتين، فقد وضعوا تحت الحماية الاستعمارات المتتالية. ما انطبق على العالم المتحرر من النازية لا ينطبق للأسف على العرب. فقد مزقت أراضيهم باسم اتفاق خارج إرادتهم: «سايكس بيكو» وخلق خرائط عربية جديدة وفق مشروع مسبق منح الأراضي الفلسطينية لعصابات الهاغاناة واشتيرن. وتهجير الفلسطينيين بشكل قسري، في موجات غير مسبوقة في التاريخ.
منذ ذلك الوقت وجشع الكيان الصهيوني يتسع وفق استراتيجية الأولويات، أولاها الماء. ولم تكن سرقة نهر الأردن وبحيرة طبريا والجولان ونهر الليطاني وغيرها، إلا جزءاً من هذه الاستراتيجية التي تتمدد أكثر كلما ضعف العالم العربي. ما نراه اليوم واضح، ولا غرابة إذا خرج من تحت الأرض «الهيكل»، مدمراً في طريقه بيت المقدس وكل ما يحيط به. فالأعمال جارية على قدم وساق تحت الأرض لاستعادة الأوهام التوراتية التي حولوها إلى تاريخ، وأي تاريخ؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد