الفنتك في السعودية: ثورة BNPL وتمكين رأس المال البشري

mainThumb

18-09-2025 05:10 PM

شهدت المملكة العربية السعودية خلال عام 2024 طفرة استثنائية في قطاع التقنية المالية (Fintech)، لتؤكد أنها لم تعد مجرد سوق ناشئة، بل مختبرًا إقليميًا رائدًا يعيد رسم ملامح التمويل والاستهلاك والعمل. فمن خدمات "اشتر الآن وادفع لاحقًا" (BNPL) إلى خلق آلاف الوظائف النوعية، أصبح الفنتك أحد أعمدة التحول الاقتصادي والاجتماعي في المملكة، ومؤشرًا على ملامح الاقتصاد القادم.

في مجال التمويل الاستهلاكي، برزت خدمة BNPL كأحد أبرز المحركات، حيث بلغ حجم المعاملات عبرها نحو 36.6 مليار ريال سعودي في عام 2024، بزيادة نسبتها 38% عن العام السابق. كما ارتفع عدد المتاجر المتعاقدة إلى 121 ألف متجر، محققًا قفزة تجاوزت 106%. هذا النمو ليس مجرد أرقام جامدة، بل قصة ثقة متبادلة بين المستهلكين والتجار، بين جيل شاب يتوق إلى المرونة، ومنظومة مالية توفر حلولًا سريعة وفعّالة.

لقد غيّرت BNPL سلوك المستهلكين، ولا سيما الشباب الذين وجدوا فيها وسيلة للشراء الفوري دون أن تثقلهم الفوائد التقليدية. فتحولت من أداة دفع مبتكرة إلى قناة تمويلية ميسّرة تعزز الشمول المالي، وتمنح شرائح جديدة – مثل الشباب وذوي الدخل المحدود – فرصة الانخراط في الحياة الاقتصادية بثقة ومرونة.

ولا تقتصر الأهمية الاقتصادية لخدمات BNPL على حجم المعاملات، بل تمتد إلى إدماج المتاجر الصغيرة والمتوسطة في المنظومة الرقمية، مما يرفع كفاءة السوق ويعزز التنافسية. ومع ذلك، فإن النمو السريع يفرض تحديات، أبرزها إدارة المخاطر الائتمانية، وهو ما تعامل معه البنك المركزي السعودي (ساما) بحزم عبر الأطر التنظيمية والتراخيص وآليات الرقابة، لضمان أن تظل الخدمة وسيلة تمكين لا عبئًا ماليًا.

لكن أثر الفنتك في السعودية لا يتوقف عند حدود التمويل الرقمي، بل يتجلى أيضًا في تمكين الإنسان وصناعة فرص العمل. فقد كشف تقرير "فنتك السعودية" أن القطاع ولّد أكثر من 11,046 وظيفة مباشرة خلال عام 2024، بزيادة نسبتها 64% عن العام السابق. إنها طفرة نوعية، تعكسها نسب التوطين والمشاركة النسائية التي قلبت الصورة النمطية عن قطاع مالي وتقني غالبًا ما يُنظر إليه باعتباره مجالًا ذكوريًا.

فقد بلغت نسبة السعوديين العاملين في القطاع 71%، بينما وصلت مشاركة النساء إلى 39%، وهي أرقام تتحدث عن نفسها. كما أن 77% من هذه الوظائف جاءت في شركات مرخصة أو خاضعة لإشراف "ساما"، بما يعكس الأثر المباشر للسياسات التنظيمية الرشيدة في ضمان نمو متوازن يراعي مصالح الجميع.

ويمثل هذا التوجه نقلة نوعية في بناء اقتصاد رقمي قائم على الكفاءات البشرية. فالفنتك لم يعد مجرد قطاع مالي، بل منصة مرنة وديناميكية تحتضن طاقات الشباب وتمنح النساء مساحة أوسع للإبداع والمشاركة. ومن خلال المدفوعات الرقمية، التمويل المبتكر، وحلول الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية، يتشكل اقتصاد جديد يستثمر في الإنسان والتكنولوجيا معًا.

إقليميًا، تحمل التجربة السعودية إشارات ملهمة لبقية دول المنطقة، من الأردن إلى مصر والإمارات والمغرب. فمع الانتشار الواسع للهواتف الذكية وازدهار التجارة الإلكترونية، يصبح إدخال خدمات مثل BNPL ضمن بيئة تنظيمية واضحة فرصة لإعادة تنشيط الأسواق المحلية، ودعم الشركات الناشئة، وجذب استثمارات إقليمية عابرة للحدود. كما يمكن لقطاع الفنتك أن يكون منصة حقيقية لمواجهة التحديات المزمنة في المنطقة، مثل البطالة بين الشباب والنساء، عبر فتح آفاق عمل جديدة في فضاء الاقتصاد الرقمي.

إن ما تحقق في السعودية خلال عام 2024 يوضح أن الفنتك لم يعد مجرد خيار مالي أو تقني، بل ثورة اقتصادية واجتماعية متكاملة. من تعزيز الشمول المالي بخدمات BNPL، إلى خلق آلاف الوظائف النوعية وتمكين رأس المال البشري، يتحول الفنتك إلى أداة استراتيجية لإعادة رسم علاقة الإنسان بالتكنولوجيا والاقتصاد. إنه ليس مجرد مسار محتمل، بل قدر المستقبل الذي يطرق أبواب المنطقة كلها، ويضع المملكة في قلب التحولات العالمية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد