أي إبدال ثقافي لأي إبدال سياسي

mainThumb

21-09-2025 10:00 AM

يحيرني دائما هذا السؤال، وأنا أتمعن فيما يعرفه واقعنا الثقافي مغربيا وعربيا: ما الذي يجمع الآن بين الكتاب والمثقفين والأكاديميين والسياسيين؟ وهل هناك ما يوحد بينهم في طريقة رؤيتهم وتفكيرهم في القضايا الكبرى التي تهم الإنسان العربي في واقعنا الحالي؟ وأنا أتابع ما ينشر من دراسات ومقالات وكتب، وما يروج في وسائط التواصل الاجتماعي، أكاد أجيب بأن كل واحد من تلك الأطراف التي أشرت إليها علم على رأسه نار، ولا شيء يجمعه بزملائه في الكتابة أو العناية بالثقافة، أو الاهتمام بالشأن العام. تنوع في الكتابات والانشغالات لا رابط بينها، هجنة في طرق التفكير والتعبير، عوالم من القضايا تتنوع إلى حد الانتهاء إلى تأكيد أن التفاصل لا التواصل هو ما يجمع أو يوحد. متاهات لا حصر لها. والأدهى فيما يقع يكمن في أني لا أكاد أجد من يتأمل هذا الواقع أو يفكر فيه، وإن كان الإجماع الحاصل لدى الجميع أنه واقع لا يرضى عليه أحد.
حين أعود بذاكرتي إلى السبعينيات والثمانينيات وحتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وأقارن بما يجري حاليا أجد الوضع مختلفا وعلى المستويات كافة. كانت الوحدة الثقافية والسياسية، رغم اختلاف الرؤيات والتصورات والمواقف، هي ما يطبع العلاقات بين الكتاب والمثقفين والأكاديميين والقراء العاديين. كانت الوحدة الثقافية ماثلة فيما ينشر من مقالات وكتب، وروايات ودراسات أدبية وفكرية وسياسية. وكانت المجلات والجرائد الثقافية وملاحق الجرائد اليومية متعددة ومتنوعة وتثير فضول القراء بما تطرحه من تصورات وآراء. وكانت المؤسسات الثقافية الرسمية والشعبية تحتفي بالثقافة من خلال المحاضرات والمؤتمرات والندوات التي كانت تقام في مختلف العواصم العربية ويستدعى إليها المثقفون والكتاب من مختلف الأقطار العربية. وكان ما يؤطر كل هذه الفعاليات الثقافية عربيا يجد مستنده في تصور عام يعطي للعمل السياسي أهمية خاصة في النظر والعمل. وكل ذلك كان يعني أن ثمة إبدالا مشتركا يوحد التصورات والآراء رغم تعددها واختلافها. يمكن اختزال هذا الإبدال في الحلم بالتغيير في مواجهة واقع تغيب فيه الديمقراطية، وتهيمن فيه التبعية، أو على الأقل إشاعة ثقافة جادة وملتزمة. ورغم الاختلاف بين الأنظمة العربية فقد كانت المعارضة ترى أن المغيب هو الديمقراطية وحرية التعبير. وظل هذا الإبدال الجامع يسهم في خلق وإعطاء دينامية قوية في الإنتاج الثقافي واهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية رغم التباين الحاصل في ضوء خصوصيات الأقطار العربية.
تحقق في الحقبة المشار إليها الإبدال البنيوي على مستوى الدراسات الأدبية والفكرية والذي يمكن اختزاله في التطلع إلى تغيير النظر إلى الثقافة السائدة التي كانت تهيمن فيها الإيديولوجيا التبسيطية. وكان يوازي هذا التطلع كتابة إبداع جديد، وخاصة على مستوى الرواية التي نجحت في تجديد أشكال كتابتها ورؤيتها لتحولات الواقع العربي. وعلى مستوى الفكر برزت إعادات قراءة التراث العربي قراءة جديدة ومختلفة عما كان مهيمنا قبل الستينيات. لكن هذا التحول العام مغربيا وعربيا كان يوازيه خطاب آخر يتجلى في التيارات الدينية المتطرفة والتي صارت بمقتضاها مقولة الإرهاب موجهة قطريا وعربيا وعالميا ضد المنطقة العربية بأكملها، والتي عرفت تكالبا خارجيا عليها. وكان من تداعياته كل ما وقع بعد انتهاء الحرب الإيرانية ـ العراقية، واحتلال الكويت، وضرب العراق، وتقسيمه إلى طوائف، ومواجهة القاعدة وداعش، أن دخلت المنطقة في فوضى «غير خلاقة» صارت بموجبها المنطقة بكاملها في دوامات ومتاهات جعلت الهم الوطني، ثقافيا وسياسيا، يحتل مكانة ثانوية، فصارت الممانعة لدى البعض باسم مواجهة الإرهاب، أو التصدي له في صدارة اهتمام الدول والحركات الثقافية والسياسية لدى البعض الآخر.
حاولت الدولة على الصعيد المغربي لتجاوز هذا الوضع الملتبس إدراج المعارضة الاشتراكية في السلطة، فكانت تلك بداية التحول السياسي والثقافي الذي بات يعرفه المغرب وظل مستمرا إلى الآن. كانت المعارضة الوطنية والديمقراطية المغربية، قبل حكومة التناوب، موحدة، رغم الاختلافات بينها، في شعارات ترمي إلى مغرب جديد ومغاير. وكان المثقفون والأكاديميون والكتاب جزءا من هذه المعارضة حتى وإن لم يكن الكثير منهم ملتزما سياسيا. كان هذا هو الإبدال الجامع والذي كان يجد امتداده فيما كان يعرفه العالم العربي واليسار العالمي آنذاك.
مع حكومة التناوب التوافقي المغربي في أواخر التسعينيات انفرط العقد الناظم، فكان تراجع كل المؤسسات الشعبية التي تشكلت منذ الاستقلال للبحث عن واقع مختلف. ظهر ذلك بجلاء في مختلف الأحزاب والنقابات والمؤسسات الثقافية، وعلى رأسها اتحاد كتاب المغرب، وحقوق الإنسان والجمعيات الثقافية. بدأ الانعزال، والابتعاد عن القضايا التي كانت تشغل بال المثقفين والكتاب، وصار كل يبحث عن مكانه، أو يتراجع نهائيا مخليا الساحة لمن فرضوا أنفسهم في هذا الواقع الجديد. فكان التراجع عن كل ما كان ممكن التحقيق. وما عرفته التجربة المغربية تحقق أيضا عربيا، فالحرب على الإرهاب وبروز الطائفية والصراعات الداخلية، بالإضافة إلى التدخلات الأمريكية والصهيونية والغربية في الشؤون العربية بذريعة مواجهة الإسلام السياسي والإرهاب كل ذلك ساهم في تهميش الإبدال الذي كان وليد ما تشكل من وعي جديد بعد هزيمة 1967، والذي برزت آثاره جلية منذ السبعينيات من القرن الماضي.
أمام تراجع الوعي السياسي والعمل الثقافي وضعف الأحزاب السياسية وغياب أي رؤية لها لتجاوز ما يعرفه الواقع العربي، جاء الربيع العربي ليؤكد أن كل تاريخ الاستقلالات السياسية العربية لم يتحقق فيها المرتجى والمؤجل. وبذريعة الإرهاب ووجهت مطالب الشباب في كسرة خبز، وكرامة، وحرية مما أدى إلى جر المنطقة إلى واقع أكثر كارثية مما جرى. وما تزال آثار الربيع العربي مستمرة في بعض الدول العربية إلى الآن. وكان الاستثناء المغربي الذي أدى في غياب حركة سياسية وثقافية موحدة إلى أن صارت المطالب الجوهرية التي رفعها الشباب من أجل العدالة الاجتماعية ومواجهة الفساد مهمشة لفائدة طرح سؤال: من نحن كمغاربة؟ بدل الاهتمام بسؤال: ماذا نريد نحن المغاربة لبناء مجتمع موحد وقوي ومتطور؟ وكان تأويل الدستور الجديد يرتكز بالدرجة الأولى على السؤال الأول، وتم تغييب الثاني نهائيا. وجاءت العدالة والتنمية التي أعطاها الشعب أصواته عقابا لمن ظل متمسكا بهم ومتبنيا لتصوراتهم لمغرب وطني ديمقراطي. وكما اشتغل اليساريون سار على نهجهم الإسلاميون، فكان فقدان الثقة الشعبية في السياسة والثقافة، وكان العزوف عن الاهتمام بالقضايا التي كانت تهم المواطنين. ورغم اختلاف المغرب عن الأقطار العربية الأخرى فالوقع واحد متشابه. فلا وجود لإبدال ثقافي أو سياسي موحد. فالطائفية والمحاصصة، والهويات، والصراعات الداخلية على السلطة (ليبيا، اليمن، السودان…) كل ذلك هو ما يطبع الواقع العربي. وما عرفته القضية الفلسطينية مع الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني مع اليمين المتطرف الصهيوني والدعم الأمريكي خير دليل على ذلك.
لماذا لا نطرح السؤال عما يمكن أن يجمع المجتمع الثقافي والسياسي من أجل إبدال جديد يصب في اتجاه تحولات مختلفة؟ فهل السياسات المتعاقبة داخليا هي التي أوصلتنا إلى هذا الأفق المسدود؟ أم أن السياسات الخارجية التي تسطرها أمريكا والصهيونية وبها ترسم خرائط المنطقة، موظفة في ذلك استخباراتها وعملاءها في الداخل لتخريب كل ما يمكن أن يسهم في خلق وعي جديد، وعلى رأسه التعليم وراء كل التراجع عن القيم الوطنية والروحية والإنسانية التي هي الرأسمال الذي نتميز به عن الغرب؟ وهل للإعلام، ولا سيما الوسائط الجديدة للتواصل هي التي خلقت أجيالا جديدة لا تعترف إلا بما تقدمه لها الصورة التي يلعب بها «المؤثرون» الذين ينتجون أكاذيب جديدة لم تدرس في المدارس التقليدية؟
ما أكثر الأسئلة التي لم نطرحها حول واقعنا! فلاعجب إذن أن يبقى وجودنا كالعدم، ونظل كرة تتقاذفها أرجل اللاعبين الدوليين.
*كاتب من المغرب



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد