أوروبا والدولة الفلسطينية: صحوة ضميرية أم أمور أخرى
المأساة الفلسطينية مستمرة منذ نحو قرن، ولكنها بلغت في العامين المنصرمين ذروة غير مسبوقة. ففي غزة قتل وتجويع ممنهج للأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير وتشريد وتهديد ووعيد، وإعلانات صريحة من جانب نتنياهو ووزرائه، بالتزامن مع الهجوم البري الأخير على غزة وقبله أيضاً، تتضمن رغبتهم في التخلص من الوجود الفلسطيني أرضاً وشعباً في الضفة والقطاع، وبالتالي إلغاء فكرة حل الدولتين في الأذهان بعد القضاء عليها في الأعيان.
وقد جاء هذا الهجوم المدمّر على المدنيين الغزيين إثر فشل المحاولة الإسرائيلية لاغتيال قيادات حماس في الدوحة؛ وبعد صدور البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية في الدوحة؛ وقبل أيام من انعقاد الدورة الـ 80 للجمعية العامة التي من المتوقع أن تعلن فرنسا ومعها دول أخرى من بينها كندا وأستراليا، وربما بريطانيا وغيرها عن اعترافها بالدولة الفلسطينية، وذلك بالانسجام مع حل الدولتين؛ وهو الحل الذي كان شرطاً للاعتراف بدولة إسرائيل عام 1949، وذلك بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (رقم 273) في ذلك الحين.
ما يُستشف من الهجوم الراهن على غزة هو انه محاولة من جانب نتنياهو للتغطية على إخفاقه في عملية الاغتيال؛ والرد على الدول العربية والإسلامية قاطبة عبر عدم إعطاء أي اعتبار لقرارات اجتماعاتها وقممها؛ وهذا ليس بالأمر الجديد على صعيد التعامل الإسرائيلي الميداني مع الأوضاع الفلسطينية والاحتجاجات والتنديدات الشعبية والرسمية على المستويين العربي والعالمي، وتجاهل كل مبادرات السلام العربية والدولية التي تنص على أهمية ضمان الحق الفلسطيني.
ولكن الأمر الذي يقلق إسرائيل حكومة ومعارضة أكثر من غيره راهناً هو التحوّل اللافت في الموقف الدولي عموماً، والأوروبي الغربي على وجه التحديد، تجاه القضية الفلسطينية. هناك اليوم نزوع أوروبي واضح نحو العودة إلى بدايات المشكلة، وإعادة الحياة إلى مشروع حل الدولتين، وهو الحل الذي لم يتجاوز بعد دائرة رفع العتب الأخلاقي من دون الإقدام على اتخاذ أي قرارات جازمة من مجلس الأمن، أو اعتماد إجراءات ملموسة على أرض الواقع؛ إجراءات تؤكد أن هذا الحل هو أولوية حقيقية للمجتمع الدولي من أجل الوصول إلى حل نهائي يضع حداً لمعاناة الشعب الفلسطيني، ويفتح الآفاق أمام استقرار المنطقة ونهوضها.
والسؤال الذي يفرض ذاته أكثر من غيره في هذا السياق، هو الذي يتمحور حول ماهية الدوافع المحتملة التي أدت إلى هذا التحول الإيجابي في المواقف الأوروبية من موضوع الاعتراف بدولة فلسطين؛ وهو الاعتراف الذي لن يكون منتجاً، وفق المؤشرات والظروف الراهنة، كما ينبغي من دون تفاهمات مع الجانب الأمريكي. هذا مع أهمية الإقرار بصعوبة الوصول إلى مثل هذه التفاهمات بين الأوروبيين والأمريكان حالياً في ظل إدارة ترامب التي لا تخفي أبداً بتصريحاتها ومواقفها وممارساتها، وقوفها إلى جانب حكومة نتنياهو إلى أبعد الحدود الممكنة بالنسبة إلى الإدارة المعنية.
كانت السويد أول دولة في الاتحاد الأوروبي تعترف بدولة فلسطين عام 2014. وقد تعرضت نتيجة ذلك لحملات إسرائيلية قاسية استهجنت ما أقدمت عليه، وتوعّدت إسرائيل بالتبعات السلبية لهذه الخطوة التي اعتبرتها عدوانية؛ ولكن الخطوة تمت، ولم تتراجع الحكومات السويدية عنها، بل استمرت في المطالبة بالحق الفلسطيني المشروع المهدور؛ ولكنها في المقابل ندّدت بعملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حماس، بالتعاون مع حلفائها في السابع من أكتوبر 2023، واعتبرته هجوماً إرهابياً لا يخدم القضية الفلسطينية. وكان هذا الموقف السويدي الخاص بالتنديد بالعملية المذكورة مطابقاً لموقف الاتحاد الأوروبي برمته الذي عبّر في الوقت ذاته عن تعاطفه الواضح مع إسرائيل.
ولكن مع تصاعد ضراوة الهجوم الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزة، وانتشار صور معاناة الأطفال والنساء والشيوخ الغزيين بكل أشكالها وأبعادها، تحرّك الرأي العام الأوروبي، وبدأت المظاهرات تجوب العواصم والمدن الكبرى الأوروبية، خاصة في الدول المؤثرة مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، مظاهرات طالبت، وتطالب، بوقف الحرب على غزة، وبضرورة الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
ولاحت في الأفق بوادر أزمة مجتمعية سياسية قيمية في الداخل الأوروبي. وتساءل الناس على مختلف المستويات عن مدى مصداقية الحديث عن القيم الإنسانية، وضروة الالتزام بالقوانين ومعاهدات حقوق الإنسان التي أسهم المفكرون والمصلحون والمشرعون الأوروبيون بفاعلية في بلورتها وصياغتها وإقرارها. ووجدت الدول الأوروبية التي تعيش فيها جاليات عربية إسلامية كبيرة نفسها في مواجهة دعوات مشروعة من مواطنيها تطالب باتخاذ موقف مما يجري في غزة، والتضامن مع الشعب الفلسطيني بموجب قوانين وقرارات الشرعية الدولية. وفي المقابل حوّلت القوى والأحزاب اليمينة المتطرفة قضية العدوان الإسرائيلي على غزة إلى قضية رأي عام داخلي بهدف الاستفادة منها سياسياً ضمن إطار تصفية الحسابات مع الأحزاب المنافسة، لا سيما الحاكمة منها. وكذلك فعلت القوى المعتدلة واليسارية في الدول المحكومة باليمين المتشدد. وكل ذلك أنذر بحدوث اضطرابات داخلية لا تتحمّلها الدول الأوروبية في ظروفها الحالية، وذلك بسبب المخاطر التي تهددها بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا، وبفعل أزمة الثقة بينها وبين إدارة ترامب من جهة ثانية.
ولكن هذه العوامل، رغم أهميتها، ما كان لها أن تؤدي إلى هذا التحول الكبير في المواقف الأوروبية لولا تناغمها مع توجهات استراتيجية في ضوء ما يشهده العالم من تنافس محتدم على تكنولوجيا المستقبل والمعادن النادرة والممرات البرية والمائية وخطوط إمدادات الطاقة والامكانيات المحتملة في القارة القطبية الشمالية في ضوء المتغيرات المناخية، هذا بالإضافة إلى التنافس على الأسواق والشراكات الاستثمارية وغيرها. فالأوروبيون يدركون أن نظام العولمة الذي ساد عالمياً بعد الحرب الباردة لم يعد بنفس قوته وحيويته بعد بروز توجه أمريكي معلن فحواه إعطاء الأولوية للمصلحة الأمريكية؛ ورفع الرسوم الجمركية حتى بالنسبة للحلفاء التقليديين في أوروبا، هذا إلى جانب محاولات التنصل الأمريكية من الالتزامات الدفاعية عبر عملية التأويل الرغبوي للنصوص. كما أن روسيا من ناحيتها تشكّل بالنسبة إلى الأوروبيين خطراً لا بد أن يحسب حسابه باستمرار؛ هذا مع أهمية العمل من أجل الوصول إلى حل واقعي مقبول في أوكرانيا. أما الصين فهي بدورها لم تعد تتصرف كقوة اقتصادية عملاقة فحسب، بل كقوة عسكرية عظمى أيضاً، وتوثق العلاقات مع الروس والكوريين الشماليين وربما غيرهم.
وكل ذلك يدفع بالأوروبيين نحو البحث عن البدائل، وذلك استعداداً لاحتمالات المستقبل التي ستترتب على مآلات المنافسة المحمومة بين القوى الثلاث المذكورة (الولايات المتحدة، روسيا، الصين) على مناطق عديدة في العالم سواء في أفريقيا أم آسيا وأمريكا اللاتينية؛ وليس سراً أن الشرق الأوسط (العالم العربي بالمعنى الأوسع)، بناء على أهمية المواقع وحجم الموارد والامكانيات، يمثل الهدف الأكثر حيوية الذي يركز عليه الجميع. وأوروبا على مدى تاريخها الطويل وجدت أنها الأجدر بالنفوذ في هذه المنطقة، فهي قريبة منها جغرافيا؛ وواعدة على مستوى امكانية بناء تكامل اقتصادي معها، تكامل يستفيد منه الطرفان، لكونه بمثابة الضمان الواقعي لتمكينهما من التعامل بفاعلية وبفوائد أكثر، أو على الأقل بخسائر أقل، مع التحديات التي ستفرضها المتغيرات المحتملة عالمياً، سواء المتبلورة ملامحمها راهناً، أو تلك المتوقَعة التي ما زالت في حكم المجهول الشبيه بالمعلوم.
من جهة أخرى، يبدو أن الأوروبيين بعد أن جرّبوا مختلف الحلول قد باتوا على يقين بأن المنطقة المعنية لن تستقر من دون معالجة الأزمات المزمنة الناجمة عن قضاياها الكبرى التي كانت في الأساس حصيلة الحسابات الاستعمارية قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، ومن أهم هذه القضايا: القضيتان الفلسطينية والكردية.
وحديثنا هنا يتمحور حول القضية الفلسطينية باعتبارها موضوع الساعة عربيا وإسلاميا وأوروبياً. فهذه القضية هي قضية شعب ووطن وهوية ومقدسات، تلامس مشاعر وأحاسيس العرب والمسلمين في كل مكان. كما أنها باتت بفعل السياسات والممارسات الإسرائيلية الاضطهادية والظلم المستمر أرضية للتشدد والتطرف. ويعلم الأوروبيون أن أي حديث خارج نطاق الاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للديمومة سيكون مجرد مشروع تضليلي وليس مقاربة جذرية مطلوبة. وبطبيعة الحال لن ترى الدولة الفلسطينية النور على أساس حل الدولتين من دون التوافقات الدولية؛ وغياب هذه التوافقات عاقبته الحروب والمآسي وقوافل اللاجئين، والتشدد والتطرف والإرهاب، والدوران المستمر في حلقة العنف. وستكون الدول الأوروبية التي تعاني أصلاً من وطأة مشكلة اللاجئين، وارتفاع نبرة مزاعم القوى اليمينة التي تتحدث عن «الخطر الإسلامي» الذي يحدق بالمجتمعات الأوروبية راهنا، ويهدد مستقبل أجيالها المقبلة مستقبلاً، ستكون الدول المعنية هي الجهة المقصودة من قبل المزيد من قوافل اللاجيئن، وهدفاً لهجمات إرهابية سواء من طرف الجماعات المنظمة أم على مستوى الأفراد. وكل ذلك سيؤدي إلى المزيد من التفاعلات والتراكمات السلبية التي من شأنها زعزعة الاستقرار المجتمعي، وهو الأمر الذي سيكلف الأوروبيين أثمانا باهظة وسط كل هذه التوترات والصراعات والهستيريا التي تخيّم على أجواء العلاقات الدولية المنبثقة في قسم كبير منها عن نزعة الهيمنة والتحكّم لدى الكثير من القادة.
هل سيتمكن الأوروبيون من إقناع الإدارة الأمريكية، حليفتهم التقليدية، بوجهة نظرهم بخصوص أهمية اعتماد حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية؟ أم أنهم سينتظرون إدارة جديدة لا تعتمد الترامبية نهجاً لها في بناء العلاقات وعقد الصفقات؟
وماذا عن مواقف الدول العربية التي تبقى في جميع الأحوال هي المعنية قبل غيرها بالموضوع الفلسطيني؟
*كاتب وأكاديمي سوري
تحديثات جديدة تعزز أرباح منشئي المحتوى على يوتيوب
نمو اشتراكات الاتصالات المتنقلة في الأردن 2025
48 باحثًا من الجامعة الأردنية ضمن الأكثر تأثيرًا عالميًا
xAI تطلق Grok 4 Fast بذكاء أسرع وكفاءة أعلى
هيئة الاتصالات: 240 ألف اشتراك بخدمات الجيل الخامس
الملك يبدأ اليوم زيارة العمل إلى مدينة نيويورك الأميركية
الأمن العام: إعادة توقف حركة المسافرين عبر جسر الملك حسين
إصابة جديدة تبعد نيمار عن سانتوس ومنتخب البرازيل
البيت الأبيض يكشف تفاصيل اتفاق تيك توك المنتظر
الاحتلال يفرض إغلاقا شاملا على الضفة الغربية
الاحتلال يعيد إغلاق معبر الكرامة ويرجع حافلات المسافرين
قياس ضغط الدم في الوقت الخطأ قد يربك التشخيص
مظاهرات أوروبية تطالب بوقف حرب غزة ومحاسبة إسرائيل
تعديل ساعات عمل جسر الملك حسين الشهر الحالي والقادم
صورة من مدرسة حكومية تكشف واقعاً مؤلماً .. شاهد
وظائف شاغرة ومدعوون للمقابلات – أسماء
فرصة للأردنيين .. وظائف ومدعوون لإجراء الامتحان التنافسي
إعلان وظائف حكومية لحملة الدبلوم والبكالوريوس .. رابط
لأول مرة .. أسعار الذهب بالأردن تسجل ارقاماً قياسية
إعلان نتائج مسابقة إعلامي الأردنيّة .. أسماء
إعلان الدفعة الرابعة لبعثات إعداد المعلمين .. رابط
الخارجية النيابية تلتقي وفدا طلابيا أمريكيا
جامعة مؤتة تقر تعديل تعليمات حوافز البحث العلمي
انطلاق فعاليات أسبوع الذكاء الاصطناعي بالجامعة الأردنية
هل ستشهد المملكة هطولات مطرية في أيلول
حراك اليرموك : دعم مشروط للرئيس الجديد .. تفاصيل