حين تسبق الإنسانية المهنة

mainThumb

25-09-2025 10:33 PM

في زمنٍ تتسارع فيه الوجوه، وتطغى فيه التفاصيل التقنية على روح العمل، نادراً ما نجد أشخاصاً يزرعون في مهنتهم معنى يتجاوز حدود الروتين.
في إحدى زياراتي النادرة إلى العيادة، أوصتني والدتي أن أقصد الغرفة رقم 9. بدت الوصية عابرة، فلم أُعرها اهتماماً في البداية. لكن ما أثار فضولي أنّ معظم المراجعين يفضّلون الغرفة ذاتها، وكأن وراء الرقم سراً خفياً يستحق الاكتشاف.
لم يمض وقت طويل حتى تكشّف لي هذا السر. رافقت طفلي المشاغب "شهم"، الذي كان يعاني من إنفلونزا خفيفة، وما إن حاول الطبيب فحصه حتى غلبه البكاء والعناد. كنت واثقة أن الطبيب سينهي الأمر على عجل كما يفعل كثيرون عند مواجهة صراخ الأطفال، لكن ما حدث كان مختلفاً تماماً. جلس الطبيب بهدوء، وابتسم، وبدلاً من الاستعجال حوّل الموقف إلى لحظة لعب وطمأنينة، حتى خفت بكاء الطفل واطمأن قلبه.
هناك، أدركت أن سر الغرفة رقم 9 لا يرتبط بوصفة دواء ولا بجهاز حديث، بل بشيء أعمق وأثمن: إنسانيّة الطبيب. لقد علّمني أن المعرفة وحدها لا تكفي لممارسة الطب، وأن الرحمة هي التي تمنحه جوهره الحقيقي، وأن الطبيب الحق هو من يعالج قلوب الناس قبل أجسادهم.
خرجت من العيادة بيقين مختلف: أن العمل، أيّ عمل، إذا اقترن بالحب والإخلاص، تحوّل إلى رسالة خالدة تترك أثرها في القلوب. وهذا هو سر الغرفة رقم 9 الذي يتناقله الجميع؛ إنها ليست مجرد غرفة في عيادة، بل رمز لمعنى أسمى: أن الإنسانية هي ما يمنح المهنة قيمتها الحقيقية، وأن الألقاب لا تضيء إلا حين يسبقها ضوء القلب. إلى الطبيب صاحب الغرفة رقم 9 في عيادة مخيم سوف ، لم نعرف اسمك، لكننا نعرف يقيناً أنك صديق لكل الأطفال. شكراً لك بحجم السماء، ولروحك التي سبقت مهنتك فأضاءت دربها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد