غريتا التي علّمت العالم أن الصمت خيانة

mainThumb

09-10-2025 02:24 PM

في مرفأ يوناني يطل على المتوسط، ارتفع صوت هش كأنه آت من حنجرة الأرض نفسها. فتاة صغيرة، ترتدي كوفية فلسطينية وتضع يدها على صدرها، قالت ما عجزت حكومات العالم عن قوله: «إنه عار».. كانت غريتا ثونبرغ، الناشطة السويدية التي بدأت رحلتها بصرخة من أجل المناخ، تتحول في تلك اللحظة إلى رمز لإنسان استيقظ من غيبوبة الصمت. لم تعد تتحدث عن حرارة الكوكب ولا ذوبان الجليد، كانت تتحدث عن الحرارة التي تلتهم أطفال غزة، عن الجليد الذي يغطي قلوب القادة المزيفين، وعن العالم الذي اختار أن يدفن ضميره في رمال البحر الأبيض المتوسط.
من اليونان انطلق «أسطول الصمود العالمي»، أكبر محاولة لكسر الحصار الإسرائيلي عن غزة عبر البحر. صعدوا إلى السفن وهم لا يحملون سوى ضمائرهم، وعندما وقفت غريتا بينهم، لم تكن مجرد ناشطة بيئية، كانت ضميراً كوكبياً في هيئة فتاة تقول للعالم: حين تفشل حكوماتنا، يتحرك الناس.
كانت الكاميرات تلتقط وجهها الصغير المرهق من السفر، لكن ما دوى في المكان لم يكن صوتها فحسب، إنما اهتزاز البشرية. قالت: «القادة الذين يمثلوننا يستمرون في تأجيج الإبادة الجماعية». كانت الجملة كطعنة في صدر النفاق الدولي… صرخة في قاعة اختنقت طويلاً بالدبلوماسية الفارغة. كثيرون تحدثوا عن غزة، لكن ما فعله هذا الصوت الشاب كان شيئاً آخر. لقد حرك تلك الطبقة العميقة من الإنسانية التي نحاول إنكارها لنعيش. في ملامحها المرتجفة، في قبضتها الصغيرة، في تلك الكوفية التي أحاطت عنقها كرمز للذاكرة، كان هناك معنى مختلف للعدالة.

مناخ الضمير وولادة الإنسان الجديد

لم تكن القصة عن غريتا فقط، كانت عن التحول التاريخي للضمير الإنساني، عن فتاة خرجت من مقاعد المدرسة لتتحدى حكومات بأكملها، ثم خرجت من غرف المؤتمرات إلى المرافئ لتحمل رسالة شعب يباد أمام العالم. حين تحدّثت بعد الإفراج عنها من الاعتقال، قالت بصوت متهدّج لكنه أكثر صلابة من كل جيوش الأرض: «ما حدث هنا هو أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، والعالم صامت». وفي لحظة بدت كأنها مشهد أسطوري، رفعت يدها المرتجفة وقالت: «الدمار الشامل بنية إبادة جماعية، محاولة لمحو شعب بأكمله أمام أعيننا».
يا لغريتا، كم تبدين صغيرة أمام الميكروفونات، وكم تبدين عظيمة أمام التاريخ. في ملامحك المتعبة شيء من وجع الأمهات في غزة، وفي ارتجاف صوتك رجفة طفل يبحث عن أمه تحت الركام. كنت تتحدثين باسم الملايين الذين خنقوا في صمتهم، باسم الذين لم تسعفهم اللغة، ولا وصلهم البث، ولا أدركهم العالم لأنهم من الضفة الخطأ من الوجع.
غريتا هذه المرة هزّت مناخ الإنسانية. أعادت إلينا معنى أن تكون الكلمة شجاعة… وأن يكون الوقوف إلى جانب المظلوم فعلاً أخلاقياً لا شعاراً. كانت تتلو بيان الحياة في وجه الموت. خلفها كوفية تحمل رائحة المخيمات، وبحر يحفظ أسماء الذين غرقوا وهم يحلمون بالوصول إلى الحرية.
كل خطابها كان صفعة على وجه النظام العالمي الذي يتحدث باسم حقوق الإنسان فيما يبرّر القتل. كانت كلماتها مثل موجة غاضبة تضرب جدار الخوف… إنه عار أن تكون هذه المهمة موجودة أصلاً. عار أن يحاصر الأطفال في القرن الحادي والعشرين. عار أن يترك شعب للموت بينما العالم يفاوض على الصياغة.
لقد علّمتنا هذه الصغيرة، في تلك الدقائق القليلة، أن الحقيقة لا تحتاج إلى إذن سياسي كي تقال، وأن الصوت الإنساني عندما يكون صادقاً، يصبح أقوى من كل منصات الأمم المتحدة، وأصدق من كل نشرات الأخبار.
حين خرجت من القاعة، لم يكن العالم كما كان. ربما لم تتغير السياسات، لكن شيئاً في ضمير البشرية بدأ يتحرك. تلك اللحظة الصغيرة التي وضعت فيها يدها على صدرها كانت أكثر بلاغة من كل المؤتمرات، كأنها تقسم بأنها لن تترك الحق يغرق. ستعود السفن أدراجها، وربما سيظل البحر شاهداً على العجز، لكن غريتا جعلت من تلك الموجة علماً جديداً يرفرف على ذاكرة الضمير العالمي. علم أبيض وأسود مثل كوفيتها، يرفرف فوق كل ميناء ينتظر الحرية.
في النهاية، لم تكن القضية عن غزة وحدها. كانت عنّا جميعاً، عن معنى أن نبقى بشراً في زمن يتساقط فيه معنى الإنسان. كانت عن أن السكوت صار جريمة، وأن قول الحق صار نجاة. وغريتا بوجهها الصغير وصوتها المبحوح قالت ما يجب أن يقال: «لقد حاولوا محو شعب بأكمله أمام أعيننا». أما صوتها الصادق حتى الألم فسيبقى يذكّرنا أن الضمير مهما غرق يستطيع أن يعوم على وجه البحرتماماً كما فعل أسطول الصمود العالمي.
ربما بعد أعوام سيقرأ طفل في غزة اسم غريتا في كتاب التاريخ فيبتسم ويقول: كانت هناك فتاة من بلد بعيد سمعت صرختنا. وسيفهم حينها أن العالم، مهما قسا، ما زال يحتفظ بقلوب قادرة على النبض… وأن الضمير وإن غاب طويلًا يعرف طريق العودة حين يسمع صرخة إنسان.

٭ كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد