جيل (Z) بين الاحتجاج والانتصار: مفارقة كأس العالم

mainThumb

22-10-2025 01:23 PM

تعيش الساحة المغربية مفارقة لافتة تثير أسئلة أعمق من مجرد كرة القدم: كيف يمكن لجيل واحد، جيل (Z)، أن يضم في آنٍ واحد شبابا يرفضون تنظيم كأس العالم، ويرون فيه تبذيرا للمال العام، ووسيلة لتجميل الواقع والتغطية على أولويات أكثر إلحاحا، مثل الصحة والتعليم والتشغيل، وشبابا آخرين من الجيل نفسه يحققون أعظم إنجاز كروي في تاريخ البلاد بفوزهم بكأس العالم لأقل من عشرين سنة؟ إنها مفارقة تحمل في طياتها رمزية عميقة عن طبيعة هذا الجيل، وعن التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها المغرب المعاصر.
جيل (Z) ليس كتلة واحدة، بل فسيفساء من التجارب والأفكار والمسارات. ففئة منه ترى في الرياضة وسيلة لتأكيد الذات، وإبراز صورة جديدة لـ "المغرب الشاب" القادر على المنافسة والإنجاز. بينما فئة أخرى، تعيش إحباط الواقع اليومي، تنظر بعين الريبة إلى كل مشروع رياضي ضخم، وتراه محاولة لتلميع الصورة دون معالجة جوهر الأزمات التي تثقل حياة المواطنين. وبين الفخر والاحتجاج، بين التصفيق والرفض، يتشكل وعي مزدوج يجسد روح هذا الجيل الذي لا يثق بسهولة، ولا يرضى بالشعارات، بل يريد أن يرى أفعالا ملموسة.
اللافت أن الموقفين لا ينتميان إلى وعيين متناقضين بقدر ما يصدران عن وعي واحد يرى أن المغرب يملك إمكانات هائلة، لكنه يطالب بتوزيع عادل لها. فالذين يرفضون تنظيم كأس العالم لا يرفضون الرياضة في ذاتها، بل يعترضون على الأولويات الاقتصادية والاجتماعية كما هي مطروحة، بينما الذين رفعوا الكأس في الملاعب هم الدليل العملي على أن الشباب المغربي قادر على النجاح متى أُتيحت له الفرصة. إنهم جميعا، على اختلاف مواقعهم، يعبرون عن الرغبة نفسها في أن يكون الوطن منصفا لأبنائه، وأن تتحول الإنجازات الرياضية إلى نموذج عام في التعليم، الاقتصاد، والإدارة.
في جوهر المفارقة تكمن رمزية الرياضة كفضاء للأمل والفرح مقابل رمزية السياسة كفضاء للخيبة والانكسار. ففي الميدان الرياضي يبدو من خلال هذا الإنجاز أن المكافأة تكافأ، والجهد والانضباط يحتفى بهما، والفرص تمنح وفق الأداء لا الولاء. أما في السياسة والحياة اليومية، فيغلب الإحساس بعدم تكافؤ الفرص وهيمنة الزبونية وكل مظاهر الفساد. لذلك، يتجه جزء من الشباب إلى الاحتجاج كوسيلة للتعبير عن رفض هذا الخلل، بينما يجد آخرون في الرياضة سبيلا لإثبات الذات وبناء الثقة في المستقبل. كلا الاتجاهين، في الواقع، تعبيران مختلفان عن مطلب واحد هو الكرامة، سواء من خلال النضال في الشارع أو التفوق في الملاعب.
ثمة من يرى أن رفض تنظيم كأس العالم موقف عدمي أو تعبير عن معاداة للوطن، غير أن الحقيقة أكثر تعقيدا من هذا التوصيف المبسط الذي يصدر في الغالب عن أشخاص يجسدون عدمية من نوع آخر (عدمية مضادة) تبالغ في الاحتفاء وتعظيم الذات، وتمتهن ركوب أمواج الهروب إلى الأمام. فالغالبية العظمى من الشباب المنتقدين لهذا الخيار لا ينطلقون من منطلق رفض للوطن أو تنكر له، بل من موقع وطني نقدي، يطالب بإعادة ترتيب الأولويات وفق حاجات المجتمع الفعلية. إنهم لا يعارضون التظاهرات الرياضية في حذ ذاتها، بل يرفضون أن تنفق عليها موارد ضخمة في ظل أزمات بنيوية مستمرة تمس القطاعات الأساسية، مثل التعليم، والصحة، والسكن، والتشغيل..
لكن المفارقة اللافتة تكمن في أن من فازوا بكأس العالم من فئة أقل من عشرين سنة، هم أبناء هذا الجيل ذاته، بل ويشكل بعضهم نتاجا للسياسات العمومية نفسها التي يرفضها نظراؤهم. صحيح أن عددا من هؤلاء اللاعبين، إن لم أقل أغلبهم، ولدوا وتربوا في بلدان المهجر، حيث استفادوا من منظومات رياضية احترافية متقدمة وفرتها دول الإقامة، غير أن هذا لا ينتقص من قيمة مشاركتهم باسم المغرب، بل يعكس انتماء وطنيا لا يقل عمقا عن أولئك الذين ترعرعوا داخل الوطن.
هذا التباين في المواقف لا يظهر تناقضا بقدر ما يكشف عن تعقيد المشهد وعن نضج متزايد في الوعي الجمعي. فالنقد لا يستهدف الوطن، بل يوجه نحو طريقة تدبيره وتوزيع موارده. إنها وطنية نقدية، لا تكتفي بالتشجيع الأعمى، ولا تنزلق إلى السلبية المطلقة، كما لا تجامل ولا تعادي، بل تسعى للتغيير من داخل إيمان عميق بإمكانات المغرب وقدرته على النهوض حين توضع السياسات في خدمة المواطنين لا العكس.
وهنا، لا يبدو "التناقض" بين الاحتجاج والانتصار كتصادم، بل كوجهين لحيوية جيل واعٍ، يعيش تناقضات مجتمعه ويواجهها بوسائل مختلفة. فجيل (Z) هو جيل الرقمنة والانفتاح، جيل لا يقبل الأجوبة الجاهزة، ويوازن بين الإيمان بالقدرة الوطنية والنقد الصريح للواقع. إنه جيل يملك شجاعة السؤال أكثر من شجاعة التصفيق، لكنه أيضا قادر على تحويل الغضب إلى طاقة إبداع، كما فعل اللاعبون الشبان الذين جعلوا العالم كله يتحدث عن المغرب بصورة إيجابية.
الإنجاز الرياضي إذن لا يجب أن يفهم كتعويض عن الأزمات، ولا كستار يخفي الاختلالات، بل كإشارة قوية إلى ما يمكن أن يتحقق عندما تتوافر الإرادة والتخطيط والكفاءة. كما أن احتجاجات الشباب لا يجب أن تقرأ كتمرد، بل كرسالة سياسية واجتماعية تطالب بتعميم منطق النجاح على كل المجالات. فالرياضة هنا لا تخفي الواقع، بل تكشفه. تكشف قدرة البلد حين يشتغل بعقلانية، وتفضح ضعفه حين يسود التسيير العشوائي.
ما طالب به جيل (Z) في النهاية بسيط وعميق في آن واحد، وهو أن تتحول لحظة الفوز إلى معنى يتجاوز حدود الملعب. فالمطلوب ليس تمجيد "النصر الرياضي" أو اعتباره دليلا على نجاح شامل، بل استلهام ما حمله من طاقة رمزية ووحدة وجدانية لتصبح تلك الروح جزءا من الثقافة الوطنية. أي أن تترجم قيم التعاون والإصرار والانتماء، التي ظهرت في لحظة الفرح، إلى أسلوب في تدبير الشأن العام وإدارة الاختلاف. وإذا ما أضيف إلى ذلك الاستثمار في الديمقراطية سيختفي التباين بين من رفضوا تضخيم كأس العالم ومن رفعوا الكأس، لأن الوطن حينها لن يكون ساحة تنافس بين فئات، بل فضاء مشتركا يشعر فيه كل شاب بأنه معنيّ بمستقبل جماعي يتسع للجميع.
إنها مفارقة تكشف أن المغرب لا يعاني من غياب القدرات، بل من سوء توزيعها وتدبيرها، وأن الجيل الجديد ليس متمردا على وطنه، بل على واقعه. جيل واحد يصرخ بصوتين: الأول يقول "نستطيع النجاح"، والثاني يقول "نريد عدالة" اجتماعية واقتصادية وسياسية. وإذا التقيا في رؤية مشتركة، سيكون المغرب أمام أعظم إنجاز لا يقاس بالكؤوس، بل ببناء الثقة بين الشباب والدولة، وتحويل الطاقة الرياضية إلى طاقة وطنية شاملة نحو التغيير. فهذا هو المهم في النهاية، لأن الإنجازات الرياضية لا تبني حضارات ولا تقدم أمما.



*أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة ( كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي- الرباط - المغرب)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد