عابرة كالحلم .. الفصل الأخير

mainThumb

23-10-2025 01:18 PM

إهداء
إلى المرأة التي أعطت، ثم لم يُمهلها القدر لتُكمل عطائها...
إلى من كانت تُشبه الحلم في حضورها وغيابها، إلى الجنية ريم صالح، التي علّمتني أن بعض الأرواح تمرّ بنا عابرة كالحلم، لكنها لا تُمحى من الذاكرة.

الفصل الأخير

الوداع الأخير للجنية ريم

انتظرتُ اتصالها القادم بفارغ الصبر، كمن ينتظر المطر بعد موسمٍ طويلٍ من الجفاف.
كنتُ أترقّب رنين الهاتف وكأنّه بوابةٌ بين عالمين، بين الواقع والمجهول، بين الأرض وما وراءها.

اتصلت أخيرًا، وكان في صوتها فرحٌ غامض، خفيفٌ كأجنحة الفراشات. أحسستُ أني أستعيد شيئًا فقدته منذ دهور، وعدتُ لأكون أنا وذلك الساحر سواءً في الحيرة والدهشة.

سألتها، والخوف يتسرّب إلى صوتي:
– لماذا لم تُكملي الجملة؟ في أيّ حالٍ أوافق على نشر قصتك؟
ثم تابعت:
– وهل ما ذكرتِه حقيقة؟ نحن في الألفية الثانية، ولسنا في زمن السحر والعرافات!

ضحكت بخفوتٍ وقالت بلهجتها العراقية الموشّاة بنبرةٍ خليجية مترفة:
– يا عزيزي...
توقّف الكلام عند حدود تلك الكلمة. كم في “عزيزي” من سحرٍ لا يُقاوم! فالرجل مهما بلغ من القوة، يضعف أمام أنوثةٍ تعرف كيف تمسّ وتراً نائماً في قلبه. ثم استدركت قائلة:
– أقصد، سيدي الكريم...

في تلك اللحظة أدركت أنني لا أُجري حوارًا عابرًا، بل أعيش فصلاً من أسطورةٍ تمشي على الأرض.

قالت بصوتٍ ناعمٍ يحمل شيئًا من الحنين:
– عليّ لم يكن ساحرًا عاديًا، بل أميرٌ في عالمهم، له مكانةٌ عظيمةٌ بين الجنّ.

قلتُ بدهشةٍ تتقاطع فيها الدهشة مع الخوف:
– ألم تخافي؟ أليس من الجنون أن تُحبّ امرأةٌ ساحرًا؟

ابتسمت وقالت:
– اخترتك أنت لتكتب حكايتي لأنك تكتب بروحٍ صادقة، وعندما أقرأ رواياتك أرى نفسي بين سطورها.

قلتُ لها:
– سيأتي يوم، وتكونين إحدى بطلات قصصي.

سكتت قليلاً، ثم قالت:
– نعم، خفتُ كثيرًا، لكني واجهتُ خوفي بالقرآن الكريم. كنتُ أقرأ، فيرتجّ الهواء من حولي، كأنهم يحترقون من نور الآيات. حاولوا إبعادي عنه، أحرقوا بيتي، ودمّروا سيارتي، ونجوتُ غير مرةٍ من الموت. لكني صمدت، لأن الحبّ حين يكون صادقًا، يُصبح أقوى من الخوف.

ثم تابعت:
– والحمد لله، نجحت. ترك عليّ السحر وتاب إلى الله. صار مؤذنًا وخطيبًا في أحد المساجد، وتبدّل وجهه كما تتبدّل الأرض بعد المطر.

ساد صمتٌ عميق، ثم جاء صوتها هامسًا كأنّه نسمة تمرّ فوق قبرٍ مفتوح:
– تريد أن تعرف متى تنشر قصتي، أليس كذلك؟

قلت:
– بلى... متى؟

قالت بهدوءٍ يليق بالأنقياء:
– عندما أموت.

ثم أضافت بصوتٍ يشبه الوداع:
– أنا مريضة بالسرطان، وأيامي قليلة. أمنيتي الأخيرة أن تُكتب قصتي... “قصة الجنية”.

كتبتها، وقرأتها عليها في المستشفى. كانت تبتسم كلما نطقتُ اسمها وتقول:
– كنت أكره لقب "الجنية"... أما الآن فقد أحببته.

وماتت ريم في ليلة الخميس من عام 2021.
وحين علم عليّ بوفاتها، لم يحتمل الفقد، فانتحر.

أما آخر كلماتها قبل أن تُغادر هذا العالم، فكانت:

 «احفظوا أحبّتكم... حتى وإن أحببتم جنيًّا.»

رحلت ريم صالح عن دنيانا، لكنها لم تغادر فضاء الحكاية.
ما زالت روحها تحوم حول الكلمات، تبتسم في ظلال السطور، وتهمس لي كلما أمسكت القلم:
"اكتب... فالكتابة امتداد للحياة، والروح لا تموت ما دامت تُروى."

بقلم: فايل بن سريد المطاعني
قصة «عابرة كالحلم» – من سلسلة كتاب جريمة على شاطئ العشاق



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد