شرقيات

mainThumb

26-10-2025 11:46 AM

رحل منذ فترة وجيزة، في صمت بالغ، الناشر المصري حسني سليمان، صاحب دار شرقيات التي اشتهرت في التسعينيات من القرن الماضي، بوصفها الدار الأكثر تقديرا للكاتب والكتاب في الوطن العربي، والتي تعمل وفق نظام صارم ودقيق في تصميم الكتب، بحيث توصل مؤسسها إلى ستايل أو نموذج خاص بكتاب الدار، كان يصممه الفنان الراحل محيي اللباد، وتزين الكتاب دائما صورة كبيرة مموهة بالأبيض والأسود للمؤلف، على الغلاف الأخير.
ومؤكد كان ذلك التصميم الجديد آنذاك، مع ما نالته الدار من شهرة، وسيلة جذب كبير للمؤلفين الكبار والصغار، سواء داخل مصر أو خارجها، وجرى نوع من السباق للنشر في هذه الدار المميزة.
لقد كان الناشر حسني سليمان متمكنا من صنعته، وكان عاد من السويد بعد اغتراب هناك، ولا أعرف إن كان يعمل هناك في مجال الكتب أم لا؟ لكن جاء بتقاليد، اعتبرت مجيدة للكتب والكتاب. وأظنه كان مهتما في بداية تأسيس الدار بموضوع حقوق الكاتب المغيبة دائما، أي كاتب يوقع عقدا، يحصل على حقوقه التي ينص عليها العقد كاملة. ولأن صناعة النشر في العالم العربي آنذاك وحتى الآن مع وجود كل هذه الدور، ليست صناعة راسخة، ولا سعت للرسوخ، فإن دار شرقيات لن تستمر دارا أجنبية في بلد عربي، وستعمد إلى تحصيل مبالغ معينة من المبدعين، لقاء نشر الكتاب بهذه الصيغة المميزة التي ذكرتها.
وبالرغم من ذلك، أي اللجوء إلى الشرك التقليدي، وتحصيل تكاليف نشر الكتاب من مؤلفه، إضافة إلى عدم انتشار كتب الدار خارج مصر، وعدم مشاركتها كدار ذات حضور في معارض الكتب العربية، لم تفقد شرقيات بريقها، ولم تفقد تهافت المؤلفين للنشر فيها.
ولدرجة أن كل كاتب تقريبا له ذكريات خاصة مع الناشر الراحل، ولا بد لك ككاتب عربي يصادف وجوده في مصر، أن تزور الدار، في وسط القاهرة، وكان مقرها واسعا، وفيه رفوف مليئة بالكتب. ويمنح السعادة فعلا لهواة القراءة، خاصة مع وجود ترجمات لكتاب عالميين، مثل كتاب «الزمن المفقود» لمارسيل بروست، ذلك الكتاب الضخم الذي اقتنيته من هناك، وكان من الصعب إكماله، ورواية «عبدة الصفر» القائمة على الرياضيات لآلان نادو.
أنا أيضا لي ذكريات مع الدار، وكنت عام 1997 كتبت رواية بطريقتي الشعرية القديمة، وذهبت إلى مصر لنشرها. كان وما يزال عندي أصدقاء كثيرون، ألتقيهم دائما، وأستشيرهم في مسألة النشر، وبلا أي تردد أشار لي معظمهم أن أتوجه إلى دار شرقيات الجميلة، والمتمكنة كما وصفوها. كنت سمعت بالدار، وشاهدت بعض كتبها عند أصدقاء، أعرفهم، وظللت أياما أقلب رواية «يقين العطش» لإدوار الخراط بين يدي كتحفة قبل أن أشرع في قراءتها. وكانت تحفة في الشكل والتقنية، والمتعة التي تمنحها في القراءة برغم حجمها الكبير، إنها واحدة من تجارب إدوار الخالدة برغم أنها لم تنل حظا كبيرا في الشهرة مثل «راما والتنين»، وغيرها من الأعمال الأولى.
ذهبت إذن للقاء ناشر شرقيات حسني سليمان حاملا مخطوطي في «ديسك»، من تلك الصغيرة السوداء التي كانت تستخدم في الماضي، قبل أن يأتي عصر السي دي، وبعده عضر الفلاش ميموري، التي تحمل آلاف الملفات، وتسكن أي جيب صغير بسهولة.
كان حسني سليمان موجودا، وكان هادئا قليل الكلام، لكن كان مشغولا جدا كما أذكر، أمامه بروفات لأعمال قيد الإنجاز، عليه مراجعتها، وأعمال في شكل مخطوطات عليه قراءتها، وحتى أعمال مكتوبة باليد، ولا بد تحتاج مراجعة دقيقة. لم يكن الكومبيوتر منتشرا آنذاك بصورته الحالية، وكان ثمة قليل من المبدعين يكتبون عليه، ومن ثم معظم ما يذهب للناشرين، كتابة بخط اليد، تبدو صعبة القراءة في غالب الأحيان.
حسني لم يكن يعرفني، والفترة التي بدأت فيها في مصر، أيام الدراسة، لم يكن موجودا، كان في مغتربه في السويد، عرفته بنفسي، وطلب المخطوط مطبوعا، وإمهاله وقتا للبت في أمره. وبالفعل عدت إليه بعد ساعات ومعي المخطوط مطبوعا، وبعد أيام قليلة ذهبت إليه وكان قد وافق على الطباعة، مع ذكر مبلغ من المال علي دفعه، ووافقت بعد أن عرفت أنه يأخذ من الصغير والكبير على حد سواء، من أجل أن تظل الدار واقفة على قدميها.
وحقيقة لم يكن مبلغا ذا قيمة تذكر إذا ما قارناه مع ما يحصل عليه الناشرون الحاليون من الكتاب المبتدئين، وبالمقابل سيحصل الكاتب على كتاب أنيق، تزينه لوحة لمحيي اللباد، الفنان الكبير. وأذكر أنه طلب مني مساعدته في مراجعة البروفات الأولى لمجموعة قصصية كانت قيد النشر لكاتب صديق، وأيضا مراجعة كتابي بنفسي قبل أن أسافر، وقد كان بالفعل.
تجربة شرقيات كانت بالفعل تجربة مهمة، وحسني سليمان كان محترما جدا، ومهنيا في قواعد النشر، وتقديم مشروعه الخاص، بأقل إمكانيات، واستقطابه لعديد من الكتاب من خارج مصر. إلا أنني كما قلت أعتقده ناقصا بعدم التوزيع الخارجي، وعدم المشاركة الفعلية كدار في معارض الكتب، وأعتقد كانت المشاركة ستساعد الدار كثيرا في التطور والانتشار، ونعلم أن معارض الكتب هي أكثر الأماكن التي تباع فيها الكتب، أكثر كثيرا من المكتبات والرفوف الخامدة.
مشروع حسني لم يستمر طويلا، وأظنه واجه تقلبات العالم، وانحسار التطلع نحو المشاريع الجادة، وقد أغلقت دار شرقيات أبوابها منذ سنوات ولم يعد ثمة ذكر لها، ثم ليرحل سليمان، أحد أهم الناشرين العرب.

*كاتب من السودان



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد