العمل في زمن المنصات: بين الضرورة والاختيار الواعي

mainThumb

26-10-2025 12:25 PM

في العالم الافتراضي الذي نعيشه اليوم، يصعب إنكار أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت جزءًا من بيئة العمل نفسها، لا مجرد وسيلة ترفيه أو تواصل اجتماعي. فلم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرّد مساحة للتسلية أو التواصل الشخصي، بل تحوّلت إلى أداة رئيسية في سوق العمل الحديث.

فالكثير من المهن — من الإعلام إلى التسويق، وحتى التعليم والخدمات العامة — باتت تعتمد بشكلٍ مباشر على الحضور الرقمي لبناء الثقة، والتواصل مع الجمهور، ومتابعة المستجدات. الصحفي والمدرّب، ومن صاحب المشروع إلى الباحث عن وظيفة — الجميع تقريبًا يحتاج إلى شكلٍ من الحضور الرقمي.

وهنا يطرح البعض، مُحقّين، فكرة أن هذه المنصات لم تعد “اختيارًا”، بل أصبحت “ضرورة” تفرضها طبيعة العمل المعاصر. فهل أصبح استخدام المنصات الرقمية “ضرورة مهنية” فعلاً، أم أنه لا يزال خيارًا يمكن إدارته بوعي؟ لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك. نعم، العالم المهني اليوم يتحرّك بسرعة رقمية، والشبكات الاجتماعية أصبحت قناة أساسية للتعريف بالنفس، وبناء السمعة، والوصول إلى الفرص.

من الطبيعي أن تتغيّر طبيعة العمل مع تغيّر أدواته، لكن الضرورة لا تعني الانصهار الكامل في هذه الأدوات. فالمهارة الحقيقية اليوم لا تكمن في التواجد المستمر على كل منصة، بل في معرفة كيف ومتى نستخدمها. يمكن للمهني أن يبني حضورًا رقميًا فاعلًا دون أن يكون أسيرًا للتفاعلات اليومية أو ضجيج المحتوى. على سبيل المثال، يكفي أن يحدد الشخص ساعات محددة للتصفح، أو يقتصر على منصة تخدم أهدافه المهنية بوضوح، بدلاً من التشتت بين خمس أو ست شبكات مختلفة.

ومع ذلك، الضرورة لا تعني الخضوع التام، ولا التواجد المستمر بلا وعي. فالقيمة الحقيقية لا تكمن في عدد المنشورات أو المتابعين، بل في نوعية الحضور والهدف من ورائه.

في الواقع، يمكننا إعادة تعريف علاقتنا بهذه المنصات بحيث تكون امتدادًا للمهارة، لا عبئًا على الذهن والوقت. فبدلًا من البقاء الدائم على “إكس” أو “لينكدإن”، يمكن تنظيم الحضور الرقمي بشكلٍ استراتيجي: تحديد ساعات محددة للنشر أو التفاعل، استخدام أدوات الجدولة، متابعة حسابات محددة ذات صلة بالمجال، وتجنّب الانجرار وراء الضجيج اليومي الذي لا يضيف شيئًا إلى القيمة المهنية أو الإنسانية.

الأهم من ذلك أن نُدرك أن النجاح المهني لا يُقاس فقط بالحضور على الشاشة. فمهارات التواصل الواقعي، والقدرة على التفاعل الشخصي، وحضور المصداقية في اللقاءات المباشرة — كلها عوامل لا يمكن أن تعوّضها أي خوارزمية. المنصات قد تُعرّف الناس بنا، لكنها لا تستطيع أن تبني الثقة الكاملة التي تُبنى بالحوار الإنساني الفعلي.

ثم إن “الغياب الرقمي الجزئي” لا يعني الانعزال، بل يمكن أن يكون نوعًا من إدارة الذات المهنية. فالاحتفاظ بمسافة من العالم الافتراضي يسمح بإعادة الشحن الذهني، والتركيز على تطوير المهارات الحقيقية التي تدعم العمل نفسه، لا صورته على الإنترنت. كثير من الناجحين اليوم يتبنّون هذا الأسلوب: وجود ذكي ومنضبط، لا حضورًا صاخبًا ومتواصلًا.

وبينما تزداد سيطرة التكنولوجيا على حياتنا المهنية، تبقى الحرية في يدنا — حرية أن نختار كيف نستخدمها، وكم نسمح لها بأن تستخدمنا. فالمعادلة العادلة ليست بين الحضور والغياب، بل بين الوعي والاعتياد. أن نكون على المنصات عندما نحتاجها، لا عندما تحتاجنا هي.

في النهاية، لا مشكلة في أن تكون مواقع التواصل جزءًا من العمل، لكن المشكلة الحقيقية حين يصبح العمل تابعًا لها. التوازن هو مهارة العصر، والوعي هو صمّام الأمان الوحيد في زمن الاتصال الدائم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد