جريمة على شاطئ العشاق .. الفصل الحادي عشر

mainThumb

05-11-2025 10:55 PM

بداية الخيط
نافذة المقدم سالم – مسقط
دخلت النقيب رحمة بنت سعيد إلى المكتب بخطواتٍ هادئة، فوجدت المقدم سالم واقفًا عند النافذة، يضمّ يده اليمنى فوق اليسرى، محدّقًا في الشارع المزدحم حيث تتشابك أصوات السيارات مع صخب الناس كأنها موجات فكرٍ متلاطمة في رأسه.
طرقت الباب بخفة، ثم ألقت التحية، لكنه لم يسمعها. كان غارقًا في شرودٍ عميق، حتى انتبه بعد لحظات وقال معتذرًا بصوتٍ واهن:
– آسف يا رحمة... لم أنتبه لوجودك.

ابتسمت بخفة وقالت وهي تقترب:
– يبدو أن شيئًا ما يشغل المقدم سالم أكثر من المعتاد.
جلس على الكرسي ببطء، وأشار لها بالجلوس قبالته، ثم قال بصوتٍ منخفض:
– نعم... الأمر محيّر جدًا. لقد استدعيت منال غازي وتحدثت معها طويلًا.
رفعت رحمة حاجبها وقالت بنبرة فضولٍ مهني:
– سيدي، كنتُ أنوي استدعاءها بنفسي... لكنك سبقتني إليها.
ابتسم سالم محاولًا التخفيف من حدّة الموقف:
– لو تركت الأمر لكِ، لربما كنتِ أقدر على استنطاقها. أنتن النساء تعرفن كيف تنتزعن الاعتراف بالكلمة أو النظرة.
ضحكت رحمة بخفة، لكن وجهها سرعان ما عاد إلى الجدية حين واصل سالم حديثه بنبرةٍ أكثر صرامة:
– منال غازي امرأة مختلفة يا رحمة... شخصيتها قوية، واثقة بنفسها، بل معتدة بها إلى درجةٍ تلامس الكبرياء... لكن ليس الغرور، أبدًا.
أومأت رحمة برأسها تشجعه على الاستمرار، فقال وهو يتنفس بعمق:
– أهم ما قالته أنها لم تكن تعلم أن عبدالعزيز تنازل عن المنزل لصالحها. وحين سألتها عن سبب وجودها ليلة مقتله، يوم زفافها، قالت إن عبدالعزيز اتصل بها وطلب حضورها لأمرٍ طارئ... لكنها حين وصلت وجدته مرتبكًا، كأنه يخفي شيئًا... إحساسها يقول إنه لم يكن وحيدًا تلك الليلة.
انحنت رحمة إلى الأمام قائلة بتركيز:
– تقصد أن امرأة كانت معه؟

أجابها سالم وهو يقلب أوراقًا من مكتبه:
نعم... قالت إنها رأت أثر امرأة، وشمت رائحة عطرٍ أنثويٍّ تملأ المكان، ورأت حذاءً نسائيًا قرب الأريكة. عندها غضبت وغادرت الفيلا.
ثم أخرج ورقةً من درج مكتبه ووضعها أمامها:
هذا عقد التنازل... حين أريتها إياه، بدا على وجهها الذهول. كانت صادقة، لم تكن تعرف شيئًا عن هذا التنازل.
صمت لحظة ثم أضاف:
– والسؤال الآن... من الذي أوشى لعبدالعزيز بقدوم منال؟ ومن المرأة التي كانت معه تلك الليلة؟
قالت رحمة وهي ترفع نظرها نحوه:
وهناك سؤالٌ آخر سيدي... إن كانت منال لا تعرف بالتنازل، فمن الذي سرّب هذه المعلومة إلينا أصلاً؟ من أخبرنا أنه تنازل لها؟ يبدو أن القاتل ما زال يوزّع الطُعم حولنا... لكنه بعيد عن خط سيرنا الحقيقي.
ابتسم سالم بإعجابٍ بحدسها، وقال:
تحليلٌ ممتاز يا رحمة. سنذهب إلى الإسكان. لا بدّ أن أحد الموظفين هو من أفشى الخبر... لكن لمصلحة من؟
في أروقة التحريات – عشتار

في مكتبٍ آخر بإدارة التحريات، كان النقيب محمد يجلس أمام مجموعة من الأوراق، يقلبها بعناية، ويقول لنفسه:
– بالفعل... هذه هي مواصفات "عشتار".
وبينما هو غارق في التفكير، جاءت النقيب منى من خلفه وقالت بخفة:
– يبدو أنك وجدت شيئًا مثيرًا يا محمد.
رد دون أن يرفع رأسه:
– ربما... السؤال الآن، هل نستدعيها للتحقيق هنا أم نذهب نحن إليها؟
قالت منى بحزمٍ وابتسامةٍ واثقة:
سأذهب إليها وحدي.
ضحك محمد قائلًا:
ولماذا لا أرافقك؟ وجودي قد يسهل الأمور، وربما يجعلها أكثر توترًا فتعترف بسرعة.
ردت منى بثقة: لا، بل العكس تمامًا. لو جئنا بها إلى هنا، قد تتجمد من الخوف، أما إن ذهبتُ إليها فسأكسب ثقتها... إحساسي يقول إنها ليست القاتلة.
رفع محمد حاجبيه وقال مازحًا:
إحساسي أنا يقول إنها القاتلة. طبيبة، وزوجة أولى لعبدالعزيز، وقد تزوج عليها... الدافع موجود: الكرامة، الغيرة، والانتقام.
ابتسمت منى وقالت بنبرة فيها دفء:
بل أشعر بأنها مظلومة... ضحية من ضحايا عبدالعزيز، لا قاتلة. ثم إن اسمها "نعمة"، والاسم وحده يوحي بالسلام.
ضحك محمد وهو يردّ ساخرًا:
لو كانت الأسماء كافية للحكم على الناس، لامتلأت السجون بالجميلات ذوات الأسماء العذبة.
ضحكت منى بدورها وقالت وهي تهمّ بالخروج:
– على كل حال، سأذهب إليها. دع إحساسي يقودني هذه المرة... فربما تبوح لي بما لا تبوح به لكم. النساء يعرفن كيف يفتحن مغاليق الصمت.
لوّح لها محمد مبتسمًا:
– على بركة الله يا منى... عسى “سوالف الحريم” تكشف لنا قاتل الرجال!
اللقاء مع الدكتورة نعمة
خرجت النقيب منى متجهةً نحو المستشفى الذي تعمل فيه الدكتورة نعمة. كانت الأخيرة على وشك المغادرة حين استوقفتها منى قائلةً بهدوءٍ رسمي:
– دكتورة نعمة؟ أنا النقيب منى بنت سليمان من إدارة التحريات.
ظهر الارتباك في عيني الدكتورة، لكن منى سارعت لتطمئنها بنبرةٍ ناعمة:
– لا تقلقي، لست هنا بصفة رسمية، فقط أود الحديث معك قليلًا... إن سمحتِ لي.

ترددت الدكتورة لحظة ثم قالت بلهجةٍ عامية ممزوجة بنغمة عراقية:
– هواي مشغولة، بس تفضلي، نخليها بمكتبي، نحجي براحتنا.
لاحظت منى اللكنة الغريبة، فسألت بابتسامةٍ خفيفة:
– لهجتك فيها نَفَس عراقي، أأنتِ من العراق؟
ابتسمت الدكتورة بخجل:
– لا، والدتي عراقية فقط.
تألقت عينا منى وهي تلتقط الخيط بسرعة:
إذن عبدالعزيز أيضًا أمه عراقية، صحيح؟
فارتبك وجه الدكتورة وتغير لونه وقالت بتردد:
– أي، والدته خالتي.
أومأت منى ببطء:
إذًا أنتما أقارب... هل زواجكما كان تقليديًا أم نابعًا من حب؟
سكتت الدكتورة لحظة، ثم قالت بصوتٍ متهدج:
– كنا نحب بعض... ما كان زواج مصلحة. بس للأسف... عبدالعزيز خان. هو خائن بطبعه، ما يشبع، يريد كل شيء له.
كانت كلماتها تتساقط كدموع مكتومة، فوضعت يدها على وجهها وهمست:
حتى مع صديقتي... خانني معاها.
اقتربت منها منى وقالت بهدوءٍ متعاطف:
– اهدئي يا دكتورة... عبدالعزيز مات. أو لنقل... قُتل.
رفعت الدكتورة رأسها بذهولٍ وصوتٍ مبحوح:
– شنو؟ قُتل؟
هنا أدركت منى أنها لامست بداية الخيط الحقيقي...
يتبع...
عشتار: آلهة الجمال والحب عند سكان بلاد الرافدين
من المجموعة القصصية: "جريمة على شاطئ العشاق"



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد