محنة كتابة الرواية التاريخية

mainThumb

12-11-2025 09:56 AM

كلمة «محنة» ليست إضافية، ولكنها مصاحبة بقوة للرواية التاريخية التي لا تكتب إلا في ظلال الرقابات المختلفة، الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والتاريخية. فهي النوع الأكثر جلباً للأذى لصاحبها؛ ربما لأن الرواية التاريخية هي الجنس الأكثر حرية في التعامل مع المادة التاريخية وغيرها وتمتلك القدرة على وتوليفها روائياً بما يتلاءم وفن الرواية. فهي في النهاية رواية وليست تاريخاً.
في الجلسة التي نشطتها في الصالون الدولي للكتاب الأخير 2025، في الجزائر، في منصة بعنوان محنة كتابة الرواية التاريخية، طرحت العديد من القضايا التي تخص كتابة الرواية التاريخية بما تثيره من إشكالات تتجدد مع كل نص ومع كل شخصية تاريخية نخرجها من حيزها التاريخي الصارم نحو مساحات الرواية التي تقوم أساسا على التخييل وعلى المادة المحددة للنوع: الرواية التاريخية. المحنة تتلخص في عنصر الإحالات التاريخية المرجعية التي توجد وراءها عائلات تريد الصورة التي صنعتها عن «بطلها». هذه المحنة واجهتني عندما كتبت عن الأمير عبد القادر الذي ارتأيت أن هناك ثوابت حياتية متعلقة بعائلته وحياته وبطولاته قد لا تهمني كثيراً، لكن المكونات النفسية والذاتية وحتى التاريخية تظل رهينة التأول والقراءة الفنية الأدبية، وهي مساحة التخييل.
من هنا، يبدو أن أول رهان كاتب الرواية التاريخية أن يسيطر على مواصفات شخصياته التاريخية والاقتراب منها بشكل أعمق يتجاوز المظاهر الخارجية، ويسيطر أيضاً على مساحات عمله بجدية وارتداء قناع المؤرخ مؤقتا لفهم الظاهرة في تحولاتها المختلفة. في الوقت نفسه، لا ينسى أنه يعمل على رواية ويشتغل في تفاصيلها، وليس بصدد عمل تاريخي هناك من يتقنه أفضل منه.
الشخصية التاريخية روائياً، مشكلة حقيقية في سياق الكتابة الإبداعية، الروائية تحديداً. وأعتقد أنها أهم ما يعيق الرواية التاريخية كفعل إبداعي، إذ تضع الكاتب وجهاً لوجه أمام حقيقة مادية من الصعب عليه تجاوزها وتخطيها. وكثيراً ما تسببت في مشكلات عائلية أو سياسية، إذ يُتهم الكاتب الروائي مثلاً بأنه خرج عن الحقيقة الموضوعية، وصوَّر حقيقة افتراضية. يحضرني في هذا السياق الروائي الفرنسي، باتريك رامبو الذي كتب ثلاثية نابليون: «كان الثلج يسقط» و»المعركة» و»الغائب»، التي حاول فيها أن يخلق شخصية أخرى تكاد تكون موازية للشخصية الحقيقية، لا تشبه نابليون إلا في ملامحها العامة، وأسماء معاركه الفاشلة أو تلك التي انتصر فيها، لكن الجوهر هو شخصية أقرب إلى الافتراضية أو الأدبية التي ينطلق فيها الكاتب من تفصيلات صغيرة، ينجز من خلالها نصه وشخصيته كما رآها هو في إبداعه.
بعيدون جداً عن هذا التصور الحر، عربياً. جاذبية المرجع، بل إجباريته هي الشكل الوحيد المقبول، وما عداه فهو خيانة إبداعية وتاريخية أيضاً. من هنا، يبدو أن أول رهان كاتب الرواية التاريخية عربياً، أن يسيطر على مواصفات شخصياته التاريخية والاقتراب منها بشكل أعمق يتجاوز المظاهر الخارجية فقط، ويسيطر أيضاً على مساحات عمله بجدية وارتداء قناع المؤرخ. ودون أن ينسى أنه يعمل على رواية ويشتغل في تفاصيلها، وليس بصدد عمل تاريخي، سيظل بكل تأكيد، التاريخ سنده الكبير، لكنه ليس غايته في النهاية، ولا يهدف إلى إنتاج تاريخ موازٍ. كل عمله التاريخي الصعب هو اقتفاء الشخصية التاريخية في تفاصيلها الحياتية وفيما يمكن تخيله أيضاً لإغنائها داخلياً.
العمل التاريخي البحت، ليس في النهاية إلا تجربة هامشية لمعرفة جوهر موضوع شخصيته، لفهمها جيداً، وربما فهم العصر كله من خلالها. لهذا، العمل على الشخصية ليس عملاً طارئاً وسهلاً. الشخصية التاريخية تفرض على الكاتب جهوداً كبيرة ومضنية، عليه أن يتحملها. الكثير من الكتاب اليوم ينسون هذا الجانب ويريدون إنهاء كتاباتهم التاريخية وغير التاريخية، بأسرع ما يمكن. النجاح في الشخصية الروائية هو نجاح في الرهان الذي ينطلق الكاتب منه، أي مسح كل الظلال التي تغطي أو غطت الشخصية زمناً طويلاً، يحررها الكاتب من عقال الحقيقة المفترضة، التي ليست بالضرورة هي الحقيقة، لكنها حقيقة من كتب تاريخها.
الجهود التاريخية التي يبذلها الكاتب تجاه شخصيته مهمة وتفيد الرواية في صالح مصداقيتها. كتابة الرواية هي بالضرورة رحلة طويلة وشاقة وليست عملاً سهلاً، لكنها أيضاً متعة، عندما يصبح العمل كياناً حياً، أو عندما يكون الكاتب في عمليات البحث والتقصي عن غائب أو تم تغييبه. بطبيعة الحال، الكاتب ليس مؤرخاً، لكنه شيء غير ذلك. كلاهما، المؤرخ والكاتب، يستعمل مادة منجزة، لكنهما ينفصلان في النهاية؛ ففي الوقت الذي يظل المؤرخ مرتهناً للوقائع والأحداث، ينحرف الكاتب نحو نفس المساحة التاريخية الميتة والمنتهية التي أصبحت تاريخاً، يعيد لها الحياة وكأنها تحدث أمامنا في لحظة القراءة. والكاتب في النهاية روائي. وهذا يجب ألا ينسى أبداً على الرغم من أنه يبدو كمسلَّمة. ولتكن علاقته بالتاريخ كبيرة ومرجعية، لكن علاقته بالحياة أعمق دائماً حتى وهو في صلب وقائع وأحداث انتهت منذ زمن بعيد. يعمل مع مادة تتحرك أمامه حية ولها وضع جديد هو الوضع الروائي الذي يغير حتماً من مواصفاتها. رواية بلا تخييل هي رواية ميتة.
السؤال الصغير والكبير في الآن نفسه: كيف يجعل الكاتب من شخصيته التاريخية/ الافتراضية حقيقة أدبية ملموس؟ وكلمة «أدبية» تعني بالضرورة الاشتغال على الشخصية داخل الحقيقة التاريخية، أو المفترضة كذلك، وفي عمق الشعرية التي تنقل النص من التاريخ إلى التخييل. النجاح هو نتيجة جهد كبير، استطاع صاحبه أن يجمع بين التاريخ والواقع وينتج من ذلك مادته الثالثة أي الأدبية. ليس الأمر بسيطاً طبعاً، إذ كثيراً ما انتهت بعض نصوص الشخصية التاريخية إلى الاستكانة إلى المعطى التاريخي المهيمن، ولا يعمل الكاتب إلا على إعادة إنتاج ما هو متداول، وتكرار لمادة موجودة سلفاً، وقد تنتهي إلى المنع، أو إلى محاكمات لا تنتهي، فتصبح قذفاً في الشخصية، لكنها المسلك الأوحد لمنتج يتم تصنيفه في الأدب وليس في التاريخ.
كنت أدرك سلفاً أن كتابة رواية عن بطل المقاومة الجزائرية «المقدس» الأمير عبد القادر، لن يمر دون ردود فعل عنيفة، وهو ما حدث، من طرف حفيدته الأميرة بديعة، التي ظلت تنكر الكثير من العناصر هي من المسلمات التاريخية. مثلاً: صوفيته وإشرافه على تحقيق بعض أعمال ابن عربي، ومن بينها الفتوحات المكية، ولقاؤه بنابليون الثالث، إمبراطور فرنسا الذي كان من وراء تحريره بعد زيارته السرية في قصر أمبواز، وصراعه مع الزاوية التيجانية الذي انتهى إلى حصار «عين ماضي» شديد القسوة، وكان هذا من أخطاء الأمير القاسية، لكنها أخطاء من يعملون ويحركون الحياة. اضطررت في النهاية أن أرد عليها بالشكل التالي لأن الأمر كان يتعلق بمسلمات لا يمكن قبولها [سيدتي، لك أميرك العائلي ولي أميري العاشق للحياة]. هناك تجارب قاسية ومنهكة، لهذا أطلقت عليها اسم «المحنة».



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد