ترامب يدير ظهره

mainThumb

13-11-2025 03:22 PM

عالقةٌ نغمةُ ألحانِ تهديداتِ ترامب في أُذنيّ كما تعلق ألحانُ قرقعةِ استعادةِ الذكرياتِ الماضيةِ لرجلٍ عجوزٍ أحاله الزمنُ إلى مقعد الحاجة إلى ذكريات الماضي.
"سيفتح باب الجحيم..." في إطار تهديداته الموجّهة إلى حماس: "لديهم الكثير من الفوضى"، في سياق ترفّعه عن الانغماس فيما يحدث في سوريا قبل مدة، وتوقّعه سير الأمور خلافًا لما حصل، وما سار في ركب تلك الخطابات التي عجّت بها بواكير مرحلة تولّيه السلطة قبل أشهر. غير أن تبدّل الحال ليس مستغربًا لمن اعتاد المتاجرة بالراهن؛ كيف لا، والسياسة – كما يعرفها كثيرون ممن يشتغلون بها، خلافًا لما أعتقد – تكمن في القدرة على اللعب مع القويّ والاستفادة دائمًا، بمعنى: "صفر خسارة"، وما يعنيه ذلك من تبديل المواقف بسرعة تفوق سرعة تبديل الملابس.

ترامب، المهووس بسمعة "رجل السلام" التي يُغطي بها حقيقةً مفادُها أنه يسعى إلى الاستفادة دائمًا، لا يريد تحمّل أية خسارة، ولو بسيطة، مهما كان عائدها مجزيًا.

الحال الذي تحوّل إليه الشرق الأوسط عمومًا، ومنطقتُنا خصوصًا، لم يكن سوى ردّة فعل لتغيّر مزاج لاعب السياسة الرئيسي في العالم، الذي وجد في انغماسه في كثرة التهديد انغماسًا أكبر في مسؤوليات لا تعنيه، وحروب لن تُغنيه، وفواتير لن تُعفيه من مسؤوليته أمام مواطنيه، لاسيّما أن مواصلة الحديث بلغة التهديد تولّد التزامًا بتنفيذه؛ ما يعني مزيدًا من التوغّل في مستنقع سياسةٍ بناها له أعداؤه ممن سبقوه إلى السلطة، وهو بالطبع لا يريد الانجرار نحو هذا المصير.

قرّر ترامب الانسحاب بهدوء، دون أن يُحمّل نفسه عبءَ عناءِ تغيير التصريحات أو الاعتراف بأن خطّ السير قد اختلف، متحسّبًا لكثير من الأمور، أهمها: وقوعه في فخّ خصومه من الديمقراطيين وغيرهم. فالخصوم بالنسبة له ليسوا فقط من غرماء الداخل، بل أيضًا من ساسة العالم الذين يرأسون أقطاب القوة العسكرية والاقتصادية، الذين لطالما توعّدهم ترامب بضرب مفاصل قواهم، سواء كانت العسكرية أو الاقتصادية، بل امتدّ هذا التهديد أحيانًا إلى نفوذ القوة الجغرافية، خشيةَ السقوط في هاوية الاستنزاف بفعل التصدي دفاعًا عن الآخرين.

في هذه المرة، أراد ترامب أن يكون عمليًا أكثر من أي وقت مضى؛ فأحال أمر التهديدات إلى أدواتٍ محليةٍ بغية تنفيذها، مستعينًا بمصالحات عديدة ومشاركات دولية، كان من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – تصوّر أن يكون ترامب طرفًا فيها، وإذ بنا نجده رأسها المدبّر. كلّ ذلك كان مدفوعًا بالحقيقة التي توصّل إليها ترامب، والتي اكتشف من خلالها أن شأن الحكم لا يمكن سوقه بمنطق التجارة والأفكار العملية في سوق البيع والشراء.

لعلّ في صدمته جرّاء تكتّل العالم في الاتجاه المقابل – ولاسيّما بعد العرض الصيني العسكري المبهر الذي فاجأ الكثيرين، وعلى رأسهم ترامب – ما جعله يتنبّه إلى أن هناك أمورًا تفوق في أهميتها متابعةَ مشاكلَ وحلولٍ يُطوّق بها فئةً جغرافيةً بعيدةً عن مركز القوة الحقيقي في العالم، تسيطر على هذه الجغرافيا مجموعةٌ من الميليشيات أو المجموعات أو حتى العصابات في بعض الأحيان والأماكن. عندها تخلّى ترامب عن فكرة الحسم بالضربة القاضية، التي عجز عنها رغم محاولاته، وآخرها الهجوم على إيران الذي ظلّ ترامب يُكابر في تكراره أثناء خطاباته، مصرًّا على أن ضرباته كانت منهيّةً لمشروع إيران النووي، أو على الأقل مؤجّلةً له سنواتٍ طويلة. لكنه يعلم جيّدًا – كما يعلم الجميع – أن هذا الأمر غير حقيقي، وفقًا لتقارير دولية في هذا الشأن؛ فهو يُكابر إلى الدرجة التي يحاول فيها ترامب تأكيدها كلّما لاحت له فرصة لذلك.

ومع هذه الحقائق، قرّر ترامب اجتذاب من كان يُهدّدهم إلى صفّه، أو إلى صفٍّ غير صفّ عدوه، متوسّلًا طريقةَ حجز المواقع التجارية، ومساحات الصفقات، ومزادات المقاولات، ممهّدًا لفترة ما بعد نهاية ولايته الرئاسية، مستكملًا فيها إمبراطوريته التجارية التي تؤمّن له – إلى حدٍّ ما – موقعًا سياسيًا بعد انتهاء ولايته. ولعلّ في اتفاق غزّة مثالًا واضحًا على ذلك، مقترنًا هذا الحال بعدم رغبة ترامب في إمداد إسرائيل بنفَسٍ حربيٍّ مقاتل، بغضّ النظر عن كُنْهِ هذا النفس، متيقّنًا في الوقت ذاته أنّ إسرائيل نفسها لم تعد ترغب في استنشاق مثل هذه الأنفاس، كي لا تُدفَع مُرغمةً للوكالة عن ترامب بخوض حروب مع من يُؤرّقه ويُؤرقهم، وإنْ كانت تصريحاتها بعكس هذا تمامًا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد