السودان بين الدولة والجيش

mainThumb

12-11-2025 03:26 PM

يعيش السودان اليوم واحدة من أعقد لحظات تاريخه الحديث؛ لحظة تختزل مأزق الدولة الإفريقية التي لم تكتمل مؤسساتها بعد، والمجتمع الذي أُنهك بالحروب والانقلابات، والجيش الذي تجاوز دوره من حماية الدولة إلى هندستها وتفكيكها. هذه ليست أزمة سلطة فحسب، بل أزمة بنية، يتقاطع فيها السياسي بالعسكري، والاجتماعي بالمؤسسي، لتكشف عن دولةٍ لم تنجح في تحقيق ما يسميه الفيلسوف الأمريكي صموئيل هنتنغتون “الانتظام السياسي” — أي اللحظة التي تصبح فيها الدولة قادرة على ضبط طاقة التحديث والمشاركة داخل مؤسسات قوية ومستقرة.

في كتابه «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة» (1968)، يرى هنتنغتون أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي لا يقود تلقائياً إلى الاستقرار، بل إلى الفوضى إذا لم تصاحبه مؤسسات سياسية قادرة على استيعاب التغيير. ما حدث في السودان منذ الاستقلال حتى اليوم هو مثال صارخ على هذا الانفصال بين “التحديث” و”التنمية السياسية”. فقد شهدت البلاد توسعاً في التعليم، ونمواً سكانياً، وتمدناً متزايداً، لكن مؤسسات الدولة ظلت هشة، خاضعة للعسكر أو مشلولة بالانقسامات الجهوية. وهكذا، بينما تعاظمت مطالب المشاركة، بقيت أدواتها ضعيفة، فتحوّلت الطاقة المدنية إلى احتجاجات، والانقسامات إلى انقلابات، حتى دخل السودان دوامة ما يسميه هنتنغتون “الانحلال السياسي”.

لم يكن الجيش السوداني مجرد أداة دفاع، بل الفاعل الأكثر حضوراً في السياسة منذ انقلاب إبراهيم عبود عام 1958، مروراً بنميري والبشير، وصولاً إلى الصراع الحالي بين الجيش وقوات الدعم السريع. لكن المفارقة أن المؤسسة التي يفترض أن توحّد البلاد كانت في كل مرحلة تُعيد إنتاج الانقسام؛ فالجيش حين يتدخل في السياسة لا يملأ فراغ الدولة، بل يصنعه. لقد قام بتهميش القوى المدنية والأحزاب، وأضعف الجهاز البيروقراطي والإداري، وحوّل الدولة إلى ساحة صراع بين مراكز قوة داخل المنظومة العسكرية نفسها. وحين أنشأ النظام السابق قوات الدعم السريع لمواجهة التمردات، ظن أنه يخلق ذراعاً أمنية، فإذا بها تتحوّل إلى قوة موازية تنازع الجيش على السيادة. هكذا انتقل السودان من دولةٍ يحكمها جيش واحد إلى كيانٍ تتنازع فيه جيوش متعددة، وكل منها يدّعي الشرعية باسم “حماية الوطن”.

يسمّي هنتنغتون هذا النمط من الحكم “النظام البريتوري”؛ حين تغيب المؤسسات الوسيطة القادرة على تنظيم المشاركة السياسية، فيتحول الجيش إلى الفاعل الوحيد الذي يمتلك التنظيم والانضباط. غير أن “النظام البريتوري” ليس دليلاً على قوة الجيش، بل على ضعف المجتمع المدني والنظام السياسي. في السودان، أدّى هذا التوازن المختل بين العسكر والمدنيين إلى إنتاج دورة متكررة: انقلاب، ثم احتجاج، فثورة، ثم انقلاب جديد. الجيش الذي كان يُفترض أن يكون صمام الأمان، أصبح هو القاطرة التي تسحب الدولة نحو الانهيار.

لم يقتصر أثر عسكرة الدولة على تعطيل الحياة السياسية، بل امتد إلى بنية المجتمع نفسه. لقد أدى تضخم الأجهزة الأمنية والمليشيات إلى إضعاف الرابط الاجتماعي، وإلى تحويل الانتماءات الجهوية والقبلية إلى أدوات تعبئة عسكرية. وأصبح الشباب السودانيون يرثون من آبائهم لا فكرة المواطنة، بل الولاء للسلاح والزعيم الميداني. تحولت المدن إلى خطوط تماس، والريف إلى معسكرات نزوح، والمجتمع إلى فسيفساء من الخوف والذاكرة الجريحة. في مثل هذا المناخ، لا يمكن بناء دولة حديثة ولا مؤسسات مستقرة، لأن الثقة — وهي مادة السياسة الأولى — قد تبخّرت.

إن الأزمة السودانية اليوم ليست سؤال “من يسيطر على الخرطوم؟”، بل “كيف سنعيد بناء الدولة بعد أن تتوقف المدافع؟”. الحل لا يمكن أن يكون بصفقة بين جنرالين أو تسوية بين معسكرين مسلحين، بل بإعادة تعريف العلاقة بين الجيش والمجتمع، والدولة والمواطن. ينبغي أن يعود العسكر إلى ثكناتهم، وأن تُستعاد السياسة إلى ساحتها الطبيعية: المجتمع المدني، الأحزاب، النقابات، الجامعات، والبرلمان. فكما يقول هنتنغتون، الحرية ليست بداية التقدم السياسي، بل نتيجته. لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية في ظل غياب مؤسسات قوية، ولا يمكن بناء مؤسسات قوية ما دام الجيش هو الحَكَم والحاكم في آنٍ واحد.

السودان اليوم أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن يواصل السير في طريق “الانقلاب الدائم” الذي يجعل من العسكر بديلاً عن الدولة، وإما أن يتعلم من دروس تاريخه ويشرع في بناء عقد اجتماعي جديد يعيد السلطة إلى المدنيين ويعيد الجيش إلى وظيفته المهنية. إن الدولة القوية لا تُبنى بالدبابات، بل بالمؤسسات، ولا يحميها السلاح بقدر ما تحميها الشرعية. ولعل أول خطوة في هذا الطريق أن يعود العسكريون إلى ثكناتهم، وأن يتركوا للمدنيين مهمة إعادة تركيب ما تهدّم من وطن، قبل أن يتحول السودان من دولة مأزومة إلى جغرافيا بلا دولة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد