شحن العقول الغارقة إلى غياهب اللاعودة

شحن العقول الغارقة إلى غياهب اللاعودة

06-12-2025 03:03 AM

كانت ومازالت حدوتة قبل النوم لا تحلو إلَّا بتطرّقها إلى عالم المجهول، عالم يغزوه الجنّ والحيوانات الخرافية والحكايات التي لا يمكن أن تحدث على أرض الواقع. وهذا النوع من الحكايات يلاقي شعبية كبيرة؛ ليس فقط بين الأطفال، ولكن عند الكبار أيضًا، الذين قد يصغون لحكاية قد سمعوها آلاف المرَّات منذ نعومة أظافرهم، لكنها لا تفقد بريقها، حتى ولو بلغ الشخص ذرى الحكمة والعقلانية، أو حتى استقر في مرحلة الشيخوخة.
قد يعتقد البعض أن فانتازيا الحواديت لا يمكن أن تكون جاذبة إلى تلك الدرجة، لكن الشواهد العملية منذ بداية التطوُّر وصولًا إلى عالم اليوم المرقمن، تؤكِّد أن الخيال والفانتازيا هما الورقة الرَّابحة في أي زمان ومكان. وأقرب دليل على هذا، حكايات ألف ليلة وليلة التي لا تبلى أبدًا. فإذا أرادت شركات الانتاج ضمان أرباحها بفيلم يلتف حوله جميع أفراد الأسرة، فإنها تعيد انتاج أفلام أساسها حكايات ألف ليلة وليلة، مثل حكاية علاء الدين والمصباح السحري، أو السندباد. وبالرغم من أن عالم اليوم قد وفَّر تكنولوجيات تضاهي البساط السحري في تلك الحكاية، لكن يجد الإنسان أن التطوُّر لا يزال عاجزًا عن الولوج إلى ذاك العالم.
ولا تقتصر الفانتازيا على حكايات ألف ليلة وليلة، بل أي حكاية أساسها عالم اللامعقول، مثل سندريلا وسنووايت. وكلَّما زاد التطوُّر تزداد وتتعقَّد وتتشابك الحكايات الخالية التي تغرق القارئ أو المُشاهد في عالم الفانتازيا. فمع الثورة الصناعية الثانية والصراعات الإمبريالية، كتب الروائي الإنجليزي «لويس كارول» Lewis Caroll (1832-1898) روايته الشهيرة «مغامرات أليس في بلاد العجائب» Alice’s Adventures in Wonderland (1865)، وبعدها في الحقبة نفسها تقريبًا كتب الروائي الأيرلندي «برام ستوكر» Bram Stoker (1847-1912) رواية «دراكولا» Dracula (1897). ويجب ملاحظة أن «مغامرات أليس في بلاد العجائب» التي تتطرَّق إلى عالم السياسة حينذاك وتنتقد السياسات الحاكمة من خلال قصة رمزية تصلح للأطفال لما بها من مغامرات شائقة، ويفهم مغزى طرحها الأيدلوجي الكبار. لكن على النقيض، رواية «دراكولا» التي تحكي عن العالم المظلم الوحشي لمصاصي الدماء، فالمغزى الوحيد منها هو الإغراق في عالم وحشي وقاس يختلط فيه الواقع بالخيال، لكن نوع الفانتازيا، الذي يتم عرضه للقارئ، يزج به في عالم من الخيال والرعب الذي يثير العواطف، لكنه في الوقت نفسه يصير جاذباً ومحبباً لعالم الكبار؛ وكأنه قد صار مدخلًا للحواديت التي تصلح لعالم الكبار.
وبالرغم من أن هاتين الروايتين كُتبتا منذ قرابة القرن والنصف، لكن المؤلِّفين تباروا إلى إعادة كتابتهما بشتَّى الصور، واستحداث أجزاء لا نهائية لهما. بيد أن حكايات النفق المظلم المخصصة للكبار وجدت رواجًا لا مثيل له، فتبارى الروائيون على كتابة أعمال تكون مدخلًا إلى عالم الفانتازيا، وكذلك تُغرق القارئ في العنف والتوحُّش. وبمرور العقود، لم تصبح تلك الشخصيات الخيالية مصدراً للرعب، بل صارت محببة لدرجة أن الكثير من القرَّاء صار أحد أغلى أمانيهم هو الذوبان في عالم مصاصي الدماء، أو الديناصورات المتوحِّشة أو غزاة الأرض من الفضائيين أو المتحوِّلين ذوي القدرات الخارقة المصنَّفين تحت الفئة «إكس» X-Men. ولقد نجحت الأفلام الروائية والدراما التليفزيونية في شحذ تعاطف شعبي مع تلك الشخصيات، بل وساهمت أيضًا في محاولة دفع الناس لإيجاد مبررات للسلوك العنيف لها؛ مبررات جعلت القارئ والمشاهد يتمنى لو يكون الصديق المقرَّب أو الحبيب لأي منها؛ بالرغم من أنها غير سوية، وممارساتها تتنافى مع نواميس الأسس الأخلاقية.
وبمرور الربع الأوَّل من الألفية الثالثة، أصبحت هناك ظاهرة غريبة تتسيَّد المشهد، وخاصة مع قرابة انقضاء الربع الأوَّل من تلك الألفية، ألا وهو الاختفاء المنظم للروايات والأفلام التي تدعو إلى قيمة أخلاقية أو تناقش مشكلات اجتماعية أو تتطرَّق للحكايات الرومانسية، بل استبدل بها حبكات تدور حول عالم الفانتازيا، أو تغرس قيم عنف من أجل العنف، كما يحدث تمامًا في ألعاب الفيديو.
ولتحليل تلك الظواهر الغريبة، يجب الوقوف على البدايات والغايات المرجوَّة من فتح بوَّابات الخيال على مرّ العصور.
فلقد ظهرت الأساطير الإغريقية التي تعدّ بذرة عالمية حقيقية لعالم الخيال في عصور بدأ العلم والمنطق والتفكير الفلسفي تجد طريقها إلى عقل الإنسان. ولقد تعلَّم وتماهى العامة مع تلك الحكايات لدرجة أنهم صاروا لا يدركون ما إذا كان الطرح قد حدث في الواقع أم الخيال؛ ما يعني أنه عند تشوُّش أفكار العامة وقدراتهم العقلية تتلاشى الحواجز بين الواقع والخيال الفانتازي. وكان هذا الوضع مرغوبًا فيه؛ لأن المستهدف الرئيسي من تلك الأساطير هو العامة التي لم تنل حظًا وافرًا من التعليم، ولهذا كان الغرض من الأساطير الفانتازية هو التثقيف وتوفير سجل تاريخي وترفيه لأحداث تلك العصور، بالإضافة إلى التأثير على الجمهور أو السيطرة عليه في بعض الأحيان، وتتأتَّى السيطرة من خلال شحن انتباه العامة إلى عالم آخر مواز يغرقون فيه؛ ليتركوا شؤون السياسة والدولة للمنوطين بها.
لكن بداية من القرن التاسع عشر اختلف الوضع؛ فالثورة الصناعية والتقدُّم الفكري الذي ساد في «عصر العقل» Age of Reason، خلال القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، جعلا العقول البشرية مرهقة من الحياة الجامدة الخالية من الترفيه، ولهذا تعطَّشت النفوس إلى الخيال للوقوف على عتبات استراحات قصيرة ممتعة. فسارع الأدباء إلى ترجمة النصوص الفانتازية القديمة؛ مثل «أسطورة جلجامش» و»الإلياذة» و»الأوديسا»، حتى تستريح العقول في عالم من الترفيه. وبعد نجاح التجربة، توالت كتابة روايات الفانتازيا.
وأهم ما يميِّز روايات الفانتازيا أن القارئ أو المُشاهد لا ينتقد أبدًا سير الحكاية، ولا يتماهى أبدًا مع الشخوص؛ فهذا الصنف من الروايات أو الأفلام يضمن أن يصير الفم مغلقًا، ولا يجرؤ أن ينتقد سير الأحداث أو الأبطال؛ لأنه يعلم أن جميع الحكايات خيالية.
ومن الجدير بالذكر أن الفانتازيا تنتشر مع وصول العلم لذرى غير مسبوقة من التقدُّم والابتكار، والتي –في الوقت نفسه– تشكِّل علاقة طردية مع هيمنة الأديان على البشرية. وبمقارنة ألوان الفانتازيا التي انتشرت مع الثورة الصناعية مع تلك المتواترة حاليًا، يلاحظ أن فانتازيا اليوم تعي تمامًا هدفها، وهو بعيد كل البعد عن عالم الترفيه وإزاحة الملل والتعب من العقول. فلقد أصبح المنطق وشغف الإنسان بمناقشة جدوى المستجدَّات والتغيُّرات المتلاحقة، التي تصيب البشرية بصدمات حضارية شبه يومية، مصدر إزعاج؛ ما جعل القائمين على الأمور يعتقدون أن ذلك الوضع يعمل على تأخير العديد من القفزات التكنولوجية المستقبلية.
ومن ثمَّ، تفتأت قريحة الخبراء على وجوب إرسال عقول البشر إلى عالم بديل. وعندما لم يفلح تمامًا العالم الافتراضي في تحقيق هذا الخيار، صار الخيار المتاح هو إغراق جميع الأجيال الجديدة في عالم الفانتازيا، الذي يفضي اتحاده مع العالم الافتراضي الذي طرحه العالم الرقمي وأدواته من الذكاء الاصطناعي إلى إبعاد العنصر البشري تمامًا عن الصورة، وفتح الطريق أمام البدائل المُطيعة من أجهزة الروبوت. وأحد أهم أهداف تعميم الفانتازيا، من أجل التشويش على العقول، هو ضمان ألا يقوى أحدهم على إفاقة العالم لكسر سياج الفانتازيا المحكم الذي صار يشابه كهفًا مظلمًا يتحوَّل فيه الشخص السوي إلى أحد مرضى التوحُّد، والتوحُّد في تلك الحالية يكون شبه اختياري. ولضمان ألَّا يعمل أحدهم على إفاقة العالم، أصبح هدم الثوابت والقيم والمؤسسات التى ترعى المنظومات الأخلاقية، سببًا رئيسًا. وزادت المغالاة في الأمر إلى أن طالت صناعة الأفلام، وعلى رأسها مدينة هوليوود التي صارت متعثرة وتتسابق فيها كبرى شركات الانتاج على بيع أصولها وترك الصناعة للمنصَّات المستقلة التي باتت تشكِّل وعى الأجيال الجديدة كيفما شاءت.
عالم الغد ستصير فيه الحياة السوية القائمة على المبادئ والقيم حكايات، تنتمي لفصيل الفانتازيا، في حين سينفصل عقل الإنسان عن جسده كي يغرق في عالم من الخيال الفانتازي الذي تولدت لديه قوَّة غير مسبوقة تستطيع إزاحة الواقع بكل عنف وصلف بعيدًا عن معشر البشر.

كان الغرض من هذه الأعمال المبكرة هو التثقيف وتوفير سجل تاريخي وترفيهي، بالإضافة إلى التأثير على الجمهور أو السيطرة عليه في بعض الأحيان.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد