هل ما زلت تنتظر الـ «كامي كازي»

هل ما زلت تنتظر الـ «كامي كازي»

20-12-2025 02:16 PM

تعاقيت على البشرية حضارات عديدة، وكل منها أسلمت الرَّاية لأخرى تليها أو حتى اندمجت في أخرى تجاورها. وبتعاقب الدهور، بدأ التفاعل مع تأثير تلك الحضارات يظهر مردوده في شكل قفزة حضارية ومعرفية. حتى ولو كانت أي من هذه الحضارات شديدة البعد، فإن العصر الحديث بكل طفراته التكنولوجية يثبت يوميًا أن التأثُّر بالحضارات قد لا يظهر بوضوح؛ لأن انتقال التأثير عبر الأزمنة المختلفة كوَّن ما يشابه الاندماج مع الخطوط العريضة للحضارات، في حين أن التفاصيل الدقيقة التي لم يتم لها السماح بالخروج من حدود ممارستها، تُرِكت علامة مميزة لمن اكتنزها من شعوب، وأصبحت الطابع الدَّامغ لها، فيما يُسمَّى بالهوية الإثنية.
وبالنظر لحياة سكَّان المُدن الكبرى في جميع الدول، يتَّضح أنَّ نمط الحياة تقريبًا شبه متطابق، ولو وجدت اختلافات فهي شبه هامشية وغير ملحوظة؛ أي أن العالم بفضل شبكات الإنترنت لم يصبح فقط قرية صغيرة، بل تم استنساخ الشعوب والبيئات والثقافات، فصارت جميعًا وكأنه قد تم توحيدها دون أدنى إجبار، ولكن من خلال الانصياع للغازي الأعظم لشعوب البشرية أجمعين؛ ألا وهو شبكات الإنترنت.
فالعلم وحده كان الوسيلة لإحداث التقارب غير المنظور من خلال طفرة تكنولوجية استطاعت التغلغل إلى البشر على الصعيد العالمي بغض النظر عن اختلاف الثقافات والمراحل العمرية، وأجبرت الجميع على التعلُّق بالأجهزة الرقمية، لدرجة أنها أصبحت على رأس الأولويات العالمية التي تبلور معنى الحياة. ودون أدنى شك، أدمنها الجميع غير آبهين بما يؤكِّده الخبراء حول سلبياتها ومخاطرها.
والتقدُّم التكنولوجي الهائل الذي تشهده البشرية يبدو أنه ليس نهاية المطاف؛ فالعصور الوشيكة تشير إلى طفرات تقدُّم أكبر وأشدّ تعقيدًا. وبالتزامن مع تلك النقلة الحضارية، يُلاحظ، على عكس التوقُّعات، أن دور العلم والتعليم آخذ في التراجع الملحوظ. فنظم التعليم التي بدأت في شكل مُبسَّط، كانت منهاجًا مضمونًا للتقدُّم وتمهيد البشرية للطفرات التكنولوجية؛ لتلافي الوقوع في سلبياتها المدمرة. وتقسيم المراحل الدراسية على النحو المتعارف عليه، كان ولا يزال السبب في التقدُّم التكنولوجي وتهذيب النفس. وتبدأ أولى خطوات التعليم بالمرحلة الإلزامية التي يتعلم فيها الفرد أساسيات محو الأميَّة؛ من قراءة وكتابة وحساب ومقدِّمات للعلوم. يلي تلك المرحلة أخرى يصبح فيها المعلِّم داخل الفصل هو النموذج الذي يقوم بالتدريس وتلقين العقول بكل ما هو مفيد. أضف إلى ذلك النموذج الأخلاقي الملتزم الذي يثق فيه الطلَّاب ويطمحون أن يحذوا يومًا حذوه.
وفي المراحل الثانوية يتعلَّم الطلَّاب كيفية انتقال السلطة تدريجيًا من المدرِّس إلى الطالب، من خلال منهج مدروس موضوع لتعليم الشباب كيفية حل المشكلات، والتعاون الدراسي، وعمل مشروعات مشتركة. وتلك المرحلة هي بمثابة عصف ذهني لجميع الطلَّاب، ومنها تخرجت طوائف المخترعين والمفكِّرين والأدباء، علمًا بأن تلك المرحلة تبدأ من التعليم الثانوي وصولًا إلى مرحلة الجامعة، والتي فيها يخوَّل للطالب بالكامل مسؤولية نفسه، بحيث يعمل منذ ذلك الحين على رسم ملامح مستقبله بناء على خطة وُضع حجر أساسها منذ المرحلة الإلزامية. وآخر مرحلة للتعليم، وهي الدراسات العليا، يشتبك فيها الفرد مع الواقع بشكل نقدي بهدف تغيير الأوضاع التي أدَّت إلى حدوث خلل، مثل اندلاع الحروب، أو فساد أخلاقي؛ مثل انتشار أحد ألوان الجرائم أو الحوادث أو الإدمان، بجميع صوره.
هذا النموذج التعليمي الذي تم تقسيمه وفقًا لأسس دقيقة، تم هدمه تباعًا بمعول التكنولوجيا، الذي جعل الطلَّاب يقفون عند مرحلة التعليم الإلزامي والتلقين، في جميع المراحل، بما في ذلك مرحلة الدراسات العليا. وبإلغاء أهم المراحل التعليمية التي تؤهل الفرد إلى الاشتباك الفعلي مع الواقع وتعلُّم الفكر النقدي الذي يجعل الفرد مؤهلًا للتمييز بين الحميد والخبيث، حدثت مساواة غير محمودة بين البشر؛ فالمنظومة العقلية لغير المتعلمين أصبحت تتقارب شيئًا فشيئًا مع تلك لحاملي أكبر الشهادات؛ وهو ما خلق قصوراً شديداً في المجتمع. ومن ثمَّ، الجرائم البشعة التي لم يكن ليقترفها إلَّا ذوو التعليم المحدود أو الأفق الضيق، صارت متواترة بين المتعلِّمين وأصحاب المناصب. السبب في ذلك هو عدم تعلُّم الاعتماد على النفس، ويُفاقم ذلك وجود أجهزة وأدوات تكنولوجية يعلم الإنسان جيِّدًا أنها ستقوم بالمهام التي قد يضطلع بها إذا اقتضى الأمر.
وأكبر دليل على ذلك هو بدء الاستخدام المفرط للآلة الحاسبة حتى في أبسط المسائل الحسابية البديهية، والتي شيئًا فشيئًا أسلمت الرَّاية إلى الذكاء الاصطناعي، الذي صار يحل أعقد المشكلات الحسابية، ويضطلع بالفروض الدراسية، ويقدِّم مسودات مشروعات مُبهرة وأبحاثاً ذكية، وكل هذا بكبسة زرّ واحدة، ودون أن يعي الفرد أو حتى يفهم محتوى ما يقدِّمه سواء من فروض أو مشروعات، أو حتى محتوى إبداعي. يجادل القائمون على التكنولوجيا حاليًا أن الذكاء الاصطناعي قادر في أقل من ساعة على تقديم فيلم روائي طويل مليء بالإبهار البصري والحبكات التي ترضي أذواق الجماهير، لكن عندما سلك كُتَّاب الحبكات الدرامية أو السيناريو الطريق الأسهل، ولجأوا إلى الذكاء الاصطناعي ليضطلع بمهامهم من أجل زيادة مشروعاتهم الفنية ثم الثراء السريع، كانت النتيجة أن صناعة السينما برمتها على شفير الانهيار؛ لأن الجمهور قد عزف عن دفع النقود من أجل مشاهدة أفلام مُكررة خالية من الأفكار العميقة، في حين أن نفس المنتج متوافر على المنصَّات الرقمية.
لقد كان الفيلسوف الإنكليزي «فرانسيس بيكون» Francis Bacon (1561-1626) من أشدّ المنحازين لأهمية العلم والتكنولوجيا، وخاصة أن منصبه كأحد أبرز السياسيين في عصره أبرز له تلك الفائدة؛ فبحكم منصبه كمدع عام ومستشار للملك جيمس الأول، فهم أهمية المعرفة وكان يردد: «المعرفة في حد ذاتها قوَّة»؛ لأنها من وجهة نظره الطريق السريع للإنجازات وتكوين النفوذ، لكن ما يحدث حاليًا هو وجود بنوك من المعارف، لكن القائمين عليها اكتفوا بدور النَّاقل دون فهم أو نقد، وكل شخص يظن أنه يخدع الآخر عندما يقدِّم له محتوى معرفياً مُبهراً نفَّذه له الذكاء الاصطناعي، الذي هو في حد ذاته ناقل ومجمِّع للعلوم. وعلى هذا، وقعت البشرية فيما حذَّر منه «فرانسيس بيكون» مؤكّدًا أن التجارب التي لها استخدام فوري ومباشر فحسب، لا يجب تقديرها واعتبارها أفضل شيء يمكن تقديمه، بل على النقيض؛ يجب تقدير التجارب التي تصبح نواة لتجارب ولابتكارات أخرى مستقبلية، وتستطيع الأجيال القادمة الاعتماد عليها واتخاذها كركيزة في التقدُّم.
وبالفعل، هذا المسار سلكته البشرية قديمًا، ومن خلاله أصبحت وتيرة التقدم التكنولوجي متسارعة. كان هناك فضل كبير لأعمال الفيلسوف «فرانسيس بيكون» في القرن السادس عشر على الوصول لذرى التقدم الذي نشهده في الوقت الحالي. فلقد كان أوَّل من استهل فكرة وجود مستقبل زاهر للتقدُّم عندما تنبأ بأن العقلانية والمنهج العلمي والتكنولوجيا الحديثة ستُحسّن حياة البشر جذرياً؛ حيث إنها ستعمل على تحريرهم من قيود الماضي. ولقد لاقت أفكاره رواجاً بين أوساط المتعلِّمين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. بيد أن العامة لم تعِ إلا في أوائل القرن العشرين، عندما أصبح العالم يرى ويلمس نتائج التقدُّم العلمي والطفرات التكنولوجية كالقطارات والطائرات والسيارات والكهرباء وشبكات المياه، وما تلى ذلك من إنجازات لم تكن لتتوافر إلَّا في كتب الحكايات الخالية.
لكن فيما يبدو أن «فرانسيس بيكون» عندما استشرف خارطة المستقبل الحديث، كان يعي تمامًا موضع الخلل الذي قد يقوّض ما وصل له الإنسان من ذرى النجاح والتقدم. لقد كان يردد: «لا يمكن تحقيق النجاح في مسار ما، ما لم يُحدد الهدف بدقة». وذلك ينطبق تمامًا على الأجيال الحالية التي تأخذ من ثمرات نجاح الغير غاية، دون أن تجعل منها حافزًا لتحقيق قفزات تدعم الطفرات التكنولوجية والفكرية. لقد ساد في عشرينيات القرن الماضي أنه يجب إقصاء العناصر البشرية التي تعاني من خلل أو قصور عقلي من المجتمع، لأن تلك العناصر ستنتج أجيالًا مشوهة غير قادرة على التفكير السليم. وبالرغم من أن تلك الفكرة بالأساس نازية، لكنها لاقت رواجًا في الغرب بأكمله، الذي كان يؤكِّد على أهمية غربلة المجتمع من العناصر الضعيفة والتي تؤدي إلى تدهور البشرية وانحطاطها.
وللتغلُّب على هذا الانحطاط، أصبحت الحلول البدلية هي إحلال البشر بالروبوتات، لما حدث من تدهور لحالتهم النفسية والعقلية يومًا تلو الآخر، لدرجة أن الأغلبية منهم في حاجة ماسة لعلاج نفسي، والبقية الباقية وصل بها الانفصال عن الواقع شفير الفُصام (الشيزوفرانيا،) لدرجة أنهم تناسوا أن الذكاء الاصطناعي المزودة به أجهزتهم الذكية هو مجرَّد آلة ردَّ مبرمجة، وليس صديقاً أو حبيباً كما يعتقدون. وفي عالم المستقبل، كل من يريد تخطي القصور النفسي والعقلي واللحاق بركب سرعة وقوَّة الأداء التي تتمتع به الروبوتات، عليه بتركيب شريحة الدماغ الذكية. وفي حال الراغبين في المشاركة في أعمال تتطلب قوَّة البُنيان الجسدي، عليهم أيضًا أن يستبدلوا بعضاً من أجهزتهم وأطرافهم البشرية بأخرى صناعية روبوتية. أي أن الخيار الوحيد الذي سيتاح للإنسان، إمَّا الغرق في نعيم الجهل، أو اختيار الإعاقة البدنية والعقلية عند تزويده بأجهزة تعويضية. وفي أيٍّ من الأحوال، ستتلاشى في المستقبل المنظور الفروق الثقافية المميزة للشعوب تمامًا، مع إحلالها بثقافة عالمية حديثة هشَّة طابعها التغيير المستمر، وعدم الالتزام بوتيرة واحدة.

وبعد التخلُّص من سُلطان العقل على الإنسان، وحرمان البشر من وجود القدوة، سيكون من السهل التخلُّص من أي سُلطة عائلية على الفرد، وعلى رأسها السُّلطة الأبوية؛ لا لأنّ دورهم سيناله الانحطاط بعد رفض الأبناء سُلطتهم على مدار عقود طويلة، بل لأن الآباء لن يكونوا مختلفين تمامًا عن أبنائهم من الناحية المعرفية أو من جهة التفاعل النفسي والعقلي مع أهمية تكوين أسرة والتضحية من أجل الأبناء، وبوادر ذلك الاتِّجاه بالفعل على أشدّها في الوقت الحالي، لدرجة أن الغالبية العظمى من الشباب على الصعيد العالمي عازفون عن الزواج، ومن تزوَّج منهم إمَّا عازف عن الإنجاب أو يتنصَّل من المسؤولية الأبوية. وبالتأكيد، سيكون البديل الجاهز للإنسان هو الروبوت؛ وطُوِّرت بالفعل حاليًا روبوتات يتم تخليق الأطفال بداخلها، فيصير الروبوت هو الرحم البديل. ومن ثمَّ، لن يكون صعباً عليه أن يصبح الأمَّ البديلة.
في بداية التطلُّع للتطوُّر التكنولوجي في العصور القديمة، كان الإنسان سعيدًا بما سيقدِّمه له المستقبل من تطوُّر، كما تشير المخطوطات التي تستشرف المستقبل. وبمرور الزمن، وكلَّما كان الإنسان يخطو صوب طفرة تكنولوجية ملموسة، كان يوقن أن هذا التقدُّم سيفضي إلى عالم ديستوبي، قربانه البشر. عالم المستقبل سيكون غاية في التقدُّم. ومع هذا التقدُّم، سيتوارى أو يتلاشى وجود الآدميين. وإن وجدوا، لن يعدو الدور الذي يضطلعون به كونه ذاك الذي تؤديه الحيوانات الأليفة في منازل المترفين أو مُحبي الحيوانات.
ذاك هو المستقبل المنظور للبشرية كما تؤكِّد الشواهد العلمية والاجتماعية. بيد أنَّ دورة التاريخ لا يمكن الوثوق بها إلى ذلك الحدّ؛ ففي بعض الأحيان، قد تحدث طفرات تاريخية غير متوقعة تقلب الموازين وتعيد الأمور إلى مسارها الصحيح. ويذكر التاريخ أن حاكم الصين القوي «قوبلاي خان» قد جهَّز أسطولاً من السفن قوامه أربعة آلاف سفينة، تحمل جيشاً عرمرماً قوامه 140 ألف جندي. وبدون سابق إنذار، حدثت الرحمة الإلهية، بأن أرسلت إعصارًا مدمرًا حطم السفن وأغرق الجيوش، وكتب النصر لليابان. ولقد أطلق اليابانيون على هذا الإعصار «كامي كازي» Kamikazi، وهو مصطلح يعني «الرياح الإلهية». فهل من الممكن أن يرسل الخالق للبشرية «كامي كازي» لينقذها من الاندثار؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد