قبيلةُ التَّياها بين النَّصِّ القديم ، والروايات المُتَضاربة

mainThumb

25-05-2015 11:02 AM

لقد فَسُدَ علمُ الأنساب لما تناوله الجهالُ ، فقد رأى المرؤ العجبَ العُجاب في هذه الأزمنة المُتأخِّرة من جُرْءةِ المنتسبين إلى غير أبائهم ، فمنهم من إختار لنفسه نسبا مزورا ، فأنْزَلَ  رحلَهُ  في بني هاشم ، ومنهم من نزل في إحدى قبائل العرب ، وهو لا يَمُتَّ لها بصلةٍ ، ولكن يبتغى بذلك أمورا دنيوية !

وتناسى الأحاديثَ المحذِّرة من هذا الفعل الذي أقلُّ ما فيه عقوقاً لوالديه الأسبقين ، وهذا مصداق حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  في وصف آخر الزمان : ( ... ثمَّ يفشو الكذِبَ ) ، فإن مدلول الفعل ( فشا ) يشعرُكَ بالانتشار الواسع ؛ فلذلك يأتي هذا الفعل مع الأَوْبِئةِ العامة التي تفتك بأكبر عددٍ من الناس ، يقولن : ( فشا مرضُ السِّلِّ ، وفشا الطاعونُ ) .

فلذلك استعمل الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا الفعل مع ( السلام ) ، وحرص على انتشاره بين المسلمين : ( أفشوا السَّلامَ ) .

فعودا على بِدْء ، فقد كَذَبَ كثيرٌ من الناس في أنسابهم ، وظنُّوا ذلك هيِّنَاً عند الله ، وأيضا ظهرتْ طائفةٌ أخرى تشتغل بهذا العلم الشريف الذي مارسه سلفُنا الصالحُ ، فهذا العلم ليس كالعلوم الحادثة التي أوجدها الحزبيون ، مثل ( فقه الواقع ) بل علمُ النسب اشتغل به أساطينُ علماءِ السلف ، وألَّفوا في ذلك المؤلفات النافعة التي تخدمُ عِدَّةَ علوم وعلى رأسها علم الحديث ، وهؤلاء المشتغلون فيه إنما ولجوا هذا العلم بغير درايةٍ ولا معرفةٍ بقواعده ، فأثمرتْ بحوثُهم تشويهاتٍ ، وحروقاً في جسد هذا العلم !

ومما لا ينقضي منه عجبي أني سمعتُ رجلاً رَقَّاصا ، ودقَّاقا على آلةٍ موسيقية في آخر حياته عكف على هذا العلم ، وأخذ يشرِّقُ ويُغَرِّبُ فيه ، وصدَّر اسمَه بلقب : ( الباحث ) ، ولو نطق القلمُ أو القرطاسُ ؛ لقال له : ( اتركني ؛ فأني لم أُخْلَقْ لِأمثالك َ ) !

ولقد زبرتُ هذه النَّفْثَةَ على هذه الوريقة ؛ لِأتكلَّمَ على قبيلة عريقة وعزيزة ، وهي قبيلة ( التياها ) ، تلك القبيلة التي سَطَّرَتْ شجاعَتَها ، وفرضتْ نفسها على المؤرخين لما تحمله من معادِنَ أصيلةٍ ، فإن الشائِعَ بين الناس أن نسبَها يرجع لِأصلين متغايرين ، هما :

1 – من الناس من يقول نسبة الى ( سالم التيهي ) من الخزرج ، قَدِمَ من المدينة !

2 – ومن الناس من يقول : هم من بني هلال القبيلة المضرية العدنانية !

مع الأخذ بعين الاعتبار ، أنها أحاديث لا تستند الى مراجع قديمة بل بحوث حادثة أعمارُها قريبةٌ .

فهذا اختلاف ٌ واضح ، ففي النسبة الاولى ، هم يرجعون الى الخزرج من الازد ، وفي النسبة الثانية يرجعون الى بني هلال العدنانية ! وهذا دليلٌ على عدم الوثوق بهذه الأنساب التي لا تَتَّكِئُ على منهجٍ علميٍّ ، وهناك نسبة ثالثة مَرَدُّها إلى الانتساب الى المكان : وهي نسبتُهم إلى منطقة التيه في وسط صحراء سيناء ، ولكنها لا تشير الى الجد والجذم الذي انحدر منه التياها .

وهي منطقتهم من جهة السُّكْنى والتواجد ، ومنطقة سيناء من أحواش ( جذام ) القحطانية ، وقد استقرَّ في أذهان الناس أن منطقة التيه في سيناء سُمِّيَتْ بذلك ؛ لأن بني اسرائيل تاهوا فيها أربعين سنة ، ويذكرون الأية الكريمة :

(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ  أَرْبَعِينَ سَنَةً  يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ  فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) .

فهل جاء اسم ( التيه ) لهذه الصحراء بسبب تيهان اليهود فيها ، أم أن هذا الاسم قديمُ لها ؟

حتَّى أنَّ بعضَ الحمقى وصل به الجهلُ أن يَنْسِبَ هذه القبيلة العريقة الى اليهود ؛ تحت ذَريعَةِ وِحْدَةِ المكان !

فإن قبيلة التياها جاءها هذا الاسمُ لجدٍّ لهم قديمٍ من أصول جُذام ، ذكره المؤرخ المقريزي تقي الدين أحمد بن علي المُتَوَفَّى سنة ( 845 ) للهجرة في كتابه ( البيان والاعراب عَمَّن في أرض مصر من قبائل الأعراب ) عندما قام بذكر فروع جذام في مناطق مصر وأطراف الشام ، تعرَّض لهذا الجد ، قال ( 130 ) :

( أما العشيرة فهي : هلبا سويد ، بنو راشد من هلبا بن مالك بن سويد ، وأما التي في بني عقبة أحد بني مَجْرَبَة من بني  تِيْه  من بني الضبيب المذكور ... ) .

ففي هذا النصِّ من هذا المؤرخ ذكرُ ( بني تِيْه ) وهم بطن من الضبيب ، والضبيب هو ابن قرظ بن حفيدة بن عمرو بن صليع بن نبيح بن عبيد بن كعب بن سعد بن أيامه بن غطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام .

 وبعضهم يسرد العمود على اختلاف يسير .

فهذا مما يُرَجِّحُهُ الباحثُ ؛ لأنه أقرب الى المنهج العلمي من تلك الروايات غير المنضبطة بزمام العلم ، ومما يُرَجِّحُ ذلك أن ( تيه ) المذكور بلادُهُ هي بلاد التياها ، وهي أحواش جذام وبطونها ، والله أعلم .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد