قول على قول - د. سامي عطا حسن

mainThumb

29-08-2015 10:48 PM

جاوز الكاتب النسابة شريف الترباني  ( الذي أتابع كتاباته الشيقة  في الأنساب )  حد الصواب في مقاله الموسوم بـ((تحقيقُ كلمة ( نعجة ) في الآية الكريمة ، وأشعار العرب ))بلغ حد السَّرف ، وأطلق لقلمه العنان  في وصف من قال بغير مايقول بأنهم  ليسوا  (إلا شرذمَةٌ من الجهال الذين فسدتْ أذواقُهم ، وغَلُظُ حِسُّهم  ؟؟!!) وليس ذاك من شيم طلاب العلم الكرام ... بل كان علماؤنا يقولون : ( رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) فخلافهم في الرأي  لم يكن يفسد  للود قضية  فيما بينهم  ...      
 
 
لقد حظيت المرأة في شعرنا القديم بغير قليل من الرموز الكنائية ، غير أن معظم هذه الرموز قد انفكت علاقتها بها الآن  وتوارى ، بوصفه رمزا لها من عرف الاستعمال ، فليس من بيننا اليوم من يكني عن المرأ ة( بالسَّرحة ... وهي الشجرة العظيمة ) كما في قول حميد بن ثور :  ومالي من ذنب إليهم عملته ..سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي .    أو بالنخلة كما في قول (الأحوص بن جعفر الشاعر المشهور    ) :                                
 
        ألا يا نخلة من ذات عرق .... عليك ورحمة الله السلام .    
  
 أو من يرمز إلى النساء بالقلائص ( وهي النوق الشَّواب ) كما في قول أبي المنهال الأكبر شاكيا إلى عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه – تَعَرُّض بعض القساق في المدينة لنساء المجاهدين :   
 
                                  قلائصنا هداك الله إنا ....شغلنا عنهم زمن الحصار ..   
 
أو بيضات الخدور كما في قول شاعر الحماسة (شرح ديوان الحماسة للمرزوقي  1/ 193) :                  
 
          فالهمُّ بيضات الخدور ...هناك  لا النعم المراح .    
 
والمراد به ما يهتم له في ذلك الوقت( أي وقت الحرب ) : الحرم والنساء المخدرات اللاتي كأنهن بيضٌ مكنونٌ صيانةً وجمالاً، لا الإبل المراحة من مراعيها. فقد كانوا يغتنمون سباء النساء وإلحاق العار بسببهن، لا اغتنام الأموال.    
                                              
 لقد استبدلنا في عصرنا الحاضر رموزا أخرى للمرأة ، فأصبحنا نومىء إليها بمثل قولنا : ( النصف الآخر ) أو ( الجنس الناعم ) أو ( ربة البيت ) أو( شريكة الحياة ) ، أو ما إلى ذلك من تعبيرات أو رموز كنائية أفرزتها أعرافنا السائدة في مجتمعنا الآن ..   
                                                           
وقد أقحم بعض البلاغيين والمفسرين بعض الألفاظ أو العبارات غير الكنائية في حيز الكناية ... منها :    
       
 -  قوله تبارك وتعالى في قصة تحاكم الخصمين إلى داود : (إٍنَّ هَذَاَ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وِتَسْعُونَ نَعْجَةًًًًً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فََقَالَ أَكْفِلْنِيِهَا وَعَزَّنِيِ فِي الْخطَاَبِ)[ص:23].       لقد ردد كثير من علمائنا  البلاغيين والمفسرين القول بأن لفظة (نعجة) التي تكررت مرتين في الآية الكريمة هي كناية عن المرأة : يقول الزركشي في ذلك :(فكنى بالمرأة عن النعجة [ هكذا .. والصواب بالنعجة عن المرأة ] كعادة العرب أنها تكنى بها عن المرأة  . ( البرهان في علوم القرآن ج2: 302) .  ويقول ابن الأثير : (فإنه أراد الإشارة إلى النساء فوضع لفظا   لمعنى آخر وهو النعاج ,ثم مثل به النساء, وهكذا يجري الحكم في جميع ما يأتي من  الكنايات ) ( المثل السائر ص 246) . ويقول البيضاوي في تفسيره :(النعجة هي الأنثى من الضأن , وقد يكنى بها عن المرأة , والكناية والتمثيل فيها يساق للتعريض أبلغ في المقصود )( ج5: ص 17) .  
 
إن دلالة لفظة النعجة عن المرأة في الآية الكريمة ليست على هذا النحو من الوضوح لو فقهنا  خصائص الكناية في القرآن الكريم , وعندي أن هؤلاء الذين قالوا بتلك الدلالة لم يفهموها من النص القرآني ذاته ,ولعلهم ـ فيما نرجح ـقد اجتلبوها اجتلابا من  تلك القصة التي رددتها كتب التفسير ـ عند تناولها لتلك الآية ـ عن زواج داود - عليه السلام -  من امرأة أُوريا , والتي شاع فيها القول بأنه كان له  تسع وتسعون امرأة قبل زواجه من تلك المرأة ,  لعل هؤلاء قد فهموا من انطباق العدد في تلك القصة على العدد في الآية الكريمة أن لفظة النعجة فيها تعني المرأة كناية عنها .( وقد بالغ القصاص في سردها حتى بلغت حد الشطط والافتراءعلى نبي الله داود – عليه السلام – حتى قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – من حدث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود – عليه السلام – جلدته حدين ..انظر : الكشاف ج3:  ص321، وتفسير أبي السعود ، ج7: 222)         ولعل من العجيب حقا أن  يفهم هؤلاء البلاغيون والمفسرون  النعجة بهذا المعنى الكنائى ، مع أن نبي الله داود -عليه السلام - لم يفهمها إلا بمعناها الحقيقي !!     
 
إذ بتأمل السياق يتجلى لنا أنه  - عليه السلام - عند سماعه لهذا القول من أحد الخصمين ، تصور _في البداية-  أنه أمام دعوى حقيقية ،  أو تخاصم حقيقي حول نعاج  ،  ومن ثم بادر بإبداء حكمه أو فصله فيها كما تخبرنا الآية التالية لتلك الآية :  } قال  لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه  { ثم تنبه في النهايه إلى أنها تمثيل لما كان من أمره ، فبادر بالإنابة والاستغفار .                    
 
 
إن محاولة الوقوف على مواضع الكناية في القرآن الكريم تظل عُرضة لخطأ التفريط أو الإفراط مالم يساندها الوعي العميق بتلك السمة من سماتها ، أعني وضوحها الذي تكاد به تلتحق بالحقائق من حيث دلالتها المباشرة على المعنى الذي تصوره ، على نحو لا يحتاج معه إلى أدنى تأويل أو بيان ... [[  لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ]]( سورة النور : 46) 
 
 
* تفسير وعلوم قرآن – الأزهر الشريف 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد