اللغة العربية بين العامية والفصحى

mainThumb

20-12-2015 11:00 AM

كنا والزملاء في الصف الثاني ثانوي بمدرسة دير أبي سعيد (1973) جلوساً ننتظر الأستاذ ‏فإذا بمدير المدرسة الأستاذ محمود العطار يدخل الصف ليخبرنا أن أستاذ المادة في إجازة ‏وجاء هو ليشغل الدرس بدلاً منه. ‏
 
‏ لا أذكر ذلك الأستاذ ولا المادة، ولكن ما أفاض به سعادة المدير هو ما بقي في الذاكرة. وفي ‏الحقيقة وجدت بعد هذه الخبرة الطويلة في التعليم أن ما يتحدث به الأستاذ خارج الكتاب ربما ‏يرسخ في الذهن أكثر مما جاء في الكتاب نفسه كمعلومة وتثقيف للطالب لأن الطالب ‏يستوعبه كإضافة وليس كواجب يمتحن به كمادة الكتاب. ‏
 
‏ وكذلك كانت تلك الحصة مهمة جداً إذ كشفت جزءاً مهماً في شخصية الأستاذ محمود ‏وهي تتعلق بالجانب الإنساني والثقافي الواسع؛ وقد كنا نعرف الأستاذ محمود قبلها ذلك ‏الصارم في الإدارة الذي تحصل على كفين على رقبتك  كمقطوعية الكهرباء (واحد وانت ‏داخل وواحد وانت طالع) إذا دخلت الإدارة عنده حتى لو جئته سائلاً عن أمر ما لا علاقة له ‏به لمجرد أن حظك السيئ ساقك للمرور بغرفته. ‏
 
‏ كذلك كنا نسمع صوته يومياً على السماعة من غرفته عندما يريد أن يقرأ لنا تعميماً حيث ‏كان يحرص أن ينهي بيانه بكلمة انتهى. على فكرة اكتشفت لاحقاً أن هذه (الكفوف) كانت ‏من نصيب المشاغبين فقط لأنهم فقط من كانوا يروون لنا هذه الحكايات.  على الأستاذ ‏محمود السلام ودعائي له بطول العمر إن كان له في هذه الدنيا بعض من عيش أو رحمات ‏الله عليه إن كان في ديار الحق. يا لذكريات المضي عندما تنساب .‏
 
إحدى إفاضات الأستاذ محمود كانت لغوية؛ ولا أدري سبب الحديث فيها فأنا لا أعرف تخصص ‏سعادة المدير (ربما كان فلسفة) أو موضوع الحصة الغائب أستاذها.  لقد طاف بنا الأستاذ ‏محمود في الغريب من اللغة، وأريد أن أتوقف عند نقطة المفردات التي نحسبها عامية؛ كانت ‏المفاجأة أنه قال أن هذه المفردات ليست عامية في معظمها، لأننا لو بحثنا في أصولها ‏لوجدنا لها أصلا في إحدى لهجات القبائل العربية وأظن أنه استعمل كلمة خوصة (سكين) ‏كأحد الأمثلة. وعندما شاهد الاستغراب على وجوهنا باعتبار أننا نعتبرها عامية لأنها لم ترد ‏في القرآن قال إن اللغة الموجودة في القرآن هي لغة قريش من العربية فعرفنا أن أيضا أن ‏هناك لهجات أخرى غير قريش، ولهذا ومع مرور الزمن أصبحنا نعتقد أن  المفردات التي خالفت ‏ما جاء بلهجة قريش عامية وهي ليست كذلك. ومن ذلك اليوم بدأت بالذاكرة تتكون عندي ‏فكرة أن لا يوجد  هناك شيء هو الأفضل في هذا العالم؛ فأصبحت أقول أن هذا الشيء هو ‏الأفضل لأصحابه وتابعية ومريديه فقط ولا يجب أن يفرضوه على غيرهم بالقوة.   ‏
‏ ‏
وأكد عندي ما تفضل به الأستاذ محمود الحديث النبوي الذي أجاب به الرسول الكريم وهو ‏من قريش على سؤال لسائل من اليمن عندما سأله عن الصيام في السفر فقال صلى الله ‏عليه وسلم  " ليس في امبر فمصيام فم سفر"  حيث حلت ( مــ)  بدلاً من أل التعريف.  ‏وهذا يخرجنا من قضية العربية أن العربية هي فقط ما جاء على لسان قريش. ‏
 
تذكرت هذه الأمور وربما عند المختصين أمثلة أخرى كثيرة عندما رأيت هذه الحملات في ‏سياق الدفاع عن اللغة العربية  في يومها تهاجم أو تُعرِّض بمن يستخدم (العامية)  لأن هذا ‏خطر على اللغة العربية. أما الحديث النبوي فقد تذكرته عندما قرأتُ التهكمات على الفيس ‏حينما نُشِر خبرٌ  على المواقع الإلكترونية عن خطبة الجمعة باللغة البنغالية بالضليل لأن ‏المصلين كانوا من العمال البنغاليين. ‏
 
يا سادة نقدر حرصكم على هذه اللغة الرائعة ولكن لا تقولوبوها بقوالب قدسية لا يجوز ‏الاقتراب منها؛ وهي لغة واسعة شاملة تستوعب كل اللغات وتصهرها وتخرجها إخراجاً لغوياً ‏عربياً رائعاً؛ فكل اللغات التي تتقوقع على ذاتها ستندثر. ولن تندثر لغة القرآن وستواكب كل  ‏العصور ولا مشكلة عند اللغة ذاتها ولكن نأمل من المختصين فيها أن يخِفّوا علينا شوي ‏فالعربية بخير. ‏
 
لله درك يا أستاذ محمود العطار مديرنا الذي غادرنا إلى  إربد وجاء بعده الأستاذ أحمد ياسين ‏هياجنة عليه رحمة الله.  هكذا نذكر الكبار.  فهل سيذكرنا طلابنا إذا مر طيفنا ذات يوم ‏بمجلس ليشهدوا لنا فيه شهادة حق!   ‏
 
انتهى على طريقة الأستاذ محمود.     ‏


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد