القدس لنا

mainThumb

02-06-2009 12:00 AM

نبيل ناصر الجــراح

في أحدث تصريح لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في احتفال أقيم بالقدس بمناسبة حلول الذكرة السنوية الثانية والاربعين لاستيلاء اسرائيل على الجزء الشرقي من المدينة في حرب 1967 قال: إن القدس "ستبقى عاصمة اسرائيل ولن تقسم أبداً".
وقال نتنياهو في كلمة القاها بالمناسبة: "إن القدس الموحدة هي عاصمة اسرائيل. ان القدس كانت دائما لنا وستبقى كذلك الى الابد. لن تقسم القدس بعد اليوم أبدا."

هذا التصريح وهذا الغلو فيه لم يأتي من فراغ بل هو نابع من الفكر الصهيوني الإسرائيلي والمزاعم اليهودية التوراتية والأسطورة الدينية لدى اليهود لمدينة القدس وأهمية هذه المزاعم في تعبئة وحشد الرأي العام اليهودي في الشتات وربطه "بأرض الميعاد" وتوجيهه للهجرة إلى فلسطين ليتحقق للصهيونية تطبيق شعارها بعودة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" حسب النظرية الصهيونية.
وقد شكلت هذه النظرة الخاصة لفلسطين عامة وللقدس بخاصة القاعدة التي انطلقت منها سياسات الاستيطان والتوسع الصهيونية. وعلى الرغم من أن الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية علمانية لا علاقة لها بالدين اليهودي أو التوراة إلا أنها طبعت نفسها وبرامجها وأنشطتها بطابع تاريخي ديني يهودي تراثي أسطوري وذلك لإنجاح عملية الحشد والهجرة لإقامة الدولة اليهودية والعودة باليهود إلى الأرض المقدسة واتخاذ القدس أورشليم عاصمة لهم وبناء هيكلهم المزعوم فيها.

لقد سعت الحركة الصهيونية منذ أن تبلورت بنيتها التنظيمية بشكل واضح بعد مؤتمر بازل في سويسرا سنة 1897 إلى تطوير مفاهيم سياسية تعبوية في صفوف يهود العالم وبضخ جملة من الأفكار إلى أذهانهم وعقولهم وذلك في سعيٍ لتحويل مفهوم الفكرة الدينية لليهود من المستوى الديني العقائدي إلى المستوى القومي السياسي. ليس هذا فحسب بل عمد آباء ومفكرو الحركة الصهيونية إلى توظيف واستغلال بعض المفاهيم الدينية حول شعب الله المختار و أرض الميعاد لتوجيه العواطف والمشاعر اليهودية نحو فلسطين والقدس تحقيقاً للأهداف الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وسبقت مساعي آباء ومنظري الفكر الصهيوني لنشر دعوتهم ومطالبهم لتحقيقها إنشاء المنظمة الصهيونية، وظهرت فكرة استيطان فلسطين والقدس في دعوات ومؤلفات بعض المفكرين والحاخامات الصهيونيين أمثال الحاخام تسفي كاليشر ويهودا القلعي اللذين وضعا مشاريع للعودة إلى فلسطين حتى إن القلعي ق?Zدِم?Z بنفسه إلى فلسطين وسكن مدينة القدس. وفي كتابه روما والقدس يحرّض موسى هس، أحد مفكري الصهيونية الاشتراكيين في القرن التاسع عشر، على إيجاد قومية يهودية تُحرّر القدس وتكون بداية عصر الانبثاق الجديد على غرار تحرير روما في التاريخ القديم, ثم إنه بحسب الأسس التي يراها ضرورية لتحقيق ذلك، يبشر بولادة قدس جديدة تفوق روما القديمة في النفوذ والعظمة.
وعلى الرغم من ميولهم اللادينية المعروفة إلا أن قادة الحركة الصهيونية كانوا مقتنعين بأهمية ما يسميه روجيه جارودي سلطة الأسطورة في كتابه الشهير الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ، أي تأثير التوراة والأسطورة في جماهير يهود العالم وهو الأمر الذي تم توظيفه لخدمة أهداف الحركة الصهيونية والدولة اليهودية عموماً. وسرعان ما اكتشف هؤلاء القادة الصهاينة أن توجيه الأنظار إلى فلسطين أرض الميعاد وبيت المقدس مدينة صهيون سيأتيهم بكل ما يحلمون به ولم يعد أمامهم أسهل من استدراج وبعث الأسطورة الدينية لدى اليهود.

وهكذا أخذت الحركة الصهيونية وقادتها بالتركيز على القدس وإثارة المشاعر الدينية اليهودية من أجل الحصول على دعم يهود العالم لأهمية القدس الروحية في الديانة اليهودية، مستغلين ما للقدس من حرمة فريدة في نظر اليهود لوجود حائط المبكى فيها ومتخذين من ذلك ذريعة دعائية متحالفة مع الاستعمار لاغتصاب القدس وقبر الإرادة العربية والإسلامية بالقوة العسكرية. وفي إطار تركيز نشاطها على القدس بشكل خاص عمدت الحركة الصهيونية إلى تجميع المؤسسات اليهودية في مدينة القدس وذلك عن طريق بناء الأسس الأولى التي تساعد في السيطرة على مدينة القدس مستقبلاً فأقامت فيها مقر اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية ومقر الوكالة اليهودية والصندوق التأسيسي كيرن هيسود والصندوق القومي اليهودي هكيرن كيمت إضافة للمجلس الوطني لليشوف الاستيطان ومركز اللجنة القومية اليهودية. واتُخذت القدس كذلك مقراً للجامعة العبرية سنة 1925 وكذلك مستشفى هداسا الذي أُسس سنة 1935. وشكلت هذه المؤسسات الدافع الأهم للمشروع الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين وساعدته على تحقيق السيطرة وتثبيت الاستيطان على الأرض الفلسطينية، وهكذا كان استيطان القدس من أهم ركائز الدعوة الصهيونية التي ظلت تُردد أحد المزاعم اليهودية التوراتية التي تقول: " أقدامنا كانت تقف عند أبوابك يا قدس، يا قدس التي بقيت موحدة ".

ومن هنا استخدمت الصهيونية، كأي أيدلوجية تود أن تكتسب الشرعية وأن تجند الجماهير خلفها ، ديباجات دينية فكان هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، يتحدث عن الاستيطان في فلسطين " باعتباره الخروج " ويسمي الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين المحتلة ع?Zلِياه ، وهو ما يعني العلو والصعود بالمفاهيم الدينية. وفلسطين بعد احتلالها وطرد سكانها منها تصبح " أرض الميعاد " و "الوطن القومي اليهودي"، وكذلك فإن احتلال القدس هو " تحرير " لها وضم القدس الشرقية هو " توحيدها ". فاستخدام الصهاينة الديباجات والرموز الدينية لا يعبر عن الإيمان بها بل هو استخدام ذكي وخبيث لها بسبب مقدرتها التعبوية.

هذا التوظيف للتوراة وهذا الاستدراج للأسطورة في حياة اليهود هو ما استند إليه قادة الحركة الصهيونية في تحويل الوهم إلى حقيقة واللاتاريخ إلى تاريخ واللاوجود إلى وجود والاختلاق المجرد إلى واقع ، وبدأ معه تسليط الضوء على القدس بشكل أو بآخر في التعبئة الفكرية الأيدلوجية للحركة الصهيونية وبدأ يتشكل في المخيلة اليهودية تصور خاص عن القدس وأُطلِقت عليها العديد من التسميات، منها: مدينة الله، ومدينة داود، ومدينة الملك العظيم، ومدينة يهودا، وأرائيل، ومدينة العدل، وشاليم، ومدينة صهيون، وقدس الذهب. ومن هذا المنطلق دأب آباء الحركة الصهيونية ومنظروها منذ مطلع القرن المنصرم على ترسيخ ما يسمونه الهدف الأعظم في أذهان يهود العالم وهو احتلال القدس وجعلها عاصمة لدولتهم إسرائيل.

وضمن هذا التصور يعبر مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل، عن وجهة نظره تجاه القدس بقوله " إذا قُدِّر?Z لنا يوماً أن نمتلك القدس، وأنا على قيد الحياة وكنت قادراً على أن أفعل أي شيء، فسوف أدمر كل ما هو غير مقدس عند اليهود فيها ". وبعد قيام الكيان الصهيوني أعلن بن غوريون أحد قادة الحركة الصهيونية وأول رئيس حكومة إسرائيلي أمام الكنيست، وذلك بمناسبة الرد على طلب الأمم المتحدة بشأن تدويل القدس إن القدس الصهيونية هي جزء عضوي وغير منفصل عن تاريخ وديانة وروح شعبنا ، إن القدس هي القلب الذاتي لدولة إسرائيل , إن علاقتنا اليوم مع القدس لا تقل أبداً عن عمق تلك العلاقة التي كانت موجودة أيام نبوخذ نصّر وتيتوس فلانيوس.... إننا نعلن أن إسرائيل لن تتخلى إرادياً عن القدس، تماماً كما لم تتخل خلال آلاف السنين عن إيمانها وهويتها الوطنية وأملها بالعودة للقدس وصهيون . وفي أعقاب سقوط القدس الشرقية عام 1967 جدد بن غوريون القول " لا معنى لإسرائيل من دون القدس ، ولا معنى للقدس من دون الهيكل ". وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالقدس إلا أن موقف الحركة الصهيونية من القدس وأطماعها فيها لم تكن إلا جزءاً من المخطط الصهيوني الشامل لاحتلال فلسطين ككل والذي جرى تنفيذه على مراحل منذ نهاية القرن التاسع عشر.

وفي هذا الإطار بدأت الحركة الصهيونية، بعد احتلال القدس عام 1967، تُطور تصوراً جديداً في الوعي الجمعي الإسرائيلي حول مدينة القدس مفاده أن القدس هي العاصمة الوحيدة والأبدية لدولة إسرائيل وبأنه لا يمكن أن يختلف على ذلك اثنان في إسرائيل وبأن على العالم أن يقر ويعترف بذلك، والأهم، أن على العرب والفلسطينيين تحديداً أن يقبلوا ويخضعوا ويسلموا بهذا الأمر. ومن هنا وتكريساً لهذه الفكرة انطلق الصهاينة في أكبر وأوسع عملية تزوير وقلب للحقائق عرفها التاريخ وبدأوا برسم صورة للقدس التي يريدون وذلك من خلال تنفيذ خططهم الصهيونية الجهنمية التي هدفت إلى تغيير الحقائق التاريخية والديموغرافية والإنسانية فيها. ومن هنا باشر الإسرائيليون بتنفيذ مخططاتهم الرامية إلى تهويد القدس بهدف جعلها يهودية خالصة وتحويل القدس العربية إلى جزيرة صغيرة وسط بحر يهودي لفصلها عن المحيط العربي وهو ما يكرس سيادة إسرائيل عليها.

إن ممارسة الإسرائيليين في بيت المقدس، ولا شك، هي الممارسة المتناقضة مع كل معاني القدسية والاحترام وهي ذات الممارسة التي تعاملت معظم تاريخها مع بيت المقدس والهيكل بإهانات عظيمة وبإسقاط لمكانتها وقدرها.

أما صلة اليهود بمدينة القدس، التي كانت تعرف قديما باسم مدينة " يبوس".. ثم باسم
مدينة أورشليم، فها هو أيضا كتاب التوراة، في الإصحاح التاسع عشر من سفر " القضاة ".. يروي قصة ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي اقترب من مدينة يبوس التي هي أورشليم، ومعه غلامه وحماره.. وفيها يقول سفر " القضاة " بالحرف : ( وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا، قال الغلام لسيده : تعال نميل إلي مدينة اليبوسيين هذه، ونبيت فيها.. فقال له سيده : لا نميل إلي مدينة غريبة، ليس فيها أحد من بني إسرائيل ).!!

وما يرد في نصوص أخرى يتناقض كذلك مع الممارسات اليهودية والتي تعاطت مع بيت المقدس والهيكل بإهانات عظيمة. ففي سفر الملوك الثاني يعلن الرّب رفضه للمدينة المقدسة إني أنزع يهوذا أيضاً من أمامي كما نزعت إسرائيل وأرفض هذه المدينة التي اخترتها أورشليم، والبيت الذي قلت يكون فيه اسمي. وفي سفر حزقيال تُذكر القدس بأقذع الأوصاف يا ابن آدم عرِّف أورشليم برجاستها. والحال نفسها في مملكتي إسرائيل الشمالية والجنوبية حيث تلويث القدسية المُدّعاة لبيت الرّب في أروشليم وإدخال الأرجاس والأوثان إلى بيت هذا الرّب حيث يرد في سفر الإخبار الثاني: "حتى أن جميع رؤساء الكهنة والشعب أكثروا الخيانة حسب كل رجاسات الأمم، ونجّسوا بيت الرّب الذي قدّسه في أورشليم".

إذن بشهادة التوراة، هذه هي حقيقة ما يزعمونه حاليا، ويسمونه بالحق " التاريخي" لليهود في فلسطين، حيث يقول سفر القضاة بوضوح : (فلسطين أرض الكنعانيين العرب، الذين جاءوا إليها من الجزيرة العربية عام 2500 قبل الميلاد).. أما القدس ( فمدينة غريبة علي اليهود، وليس فيها احد من بني إسرائيل.!! ) هكذا يقول سفر القضاة.. ورغم ذلك يدعي الصهاينة والمتصهينون أن القدس مدينة ( يهودية ) ويصرون علي إغتصابها بالتضليل وجعلها عاصمة لكيانهم الغاصب المسمي إسرائيل.

إن آباء الحركة الصهيونية لم يكن يشغلهم بشكل محدد موضوع القدس وإنما شكل هذا الموضوع إحدى وسائل الجذب والتعبئة تجاه الدولة والكيان القومي بشكل خاص. وهذا ما بدا جلياً من أقوال وايزمن رئيس المؤتمر الصهيوني حول القدس حين أشار إلى أنه " لو أعطيت القدس لنا فلن نأخذها لأنها ستثير مشاكل لا حصر لها ". وهو أيضاً ما ورد على لسان هرتزل بعد أن زار المدينة وخرج من أبوابها قائلاً: " لا شيء في هذه المدينة لنا ".

إن مأساة القدس هي جزء أساسي من مأساة فلسطين ويصعب التفكير بإمكان الوصول إلى تسوية بشأنها دون تسوية المسألة الفلسطينية برمتها بتحرير الأرض المغتصبة ورد الحقوق إلى أصحابها الأصليين وعودة شعبها العربي الفلسطيني إليها. وإن كانت الأسطورة والقوة الصهيونية قد نجحت في خلق وعي جمعي يهودي حول القدس إلا أن الإسرائيليين والعالم أجمع يدركون أن هذه المسألة تخضع أساساً لتوازن القوى أكثر من خضوعها لاستحقاقات العقائد والعواطف وبأن صورة القدس ستبقى ملتحمة في أعماقنا مع نبض الحياة والروح إلى أن تتغير موازين القوى الظالمة هذه ، حيث تؤكد جميع الوقائع والوثائق التاريخية والدراسات ونتائج اللجان القانونيـة الدولية ، التي شكلت لدراسة الموضوع ، أن القدس عربية إسلامية، بالمعني الحضاري، أو السياسي، أو السيادي، أوالقانونى. وقد ظلت القدس جزءاً من أرض فلسطين ما يزيد على أربعة قرون، تحت ولاية الإمبراطورية العثمانية. وخلال الثلاثين عاماً الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، كان للقدس سنجق / إدارة مستقلة، وترتبط ارتباطاً مباشراً بوزارة الداخلية في الآستانة. وكان سكان القدس يتمتعون، بكامل حقوقهم المدنية والسياسية. وبسقوط الدولة العثمانية، سقطت فلسطين والقدس تحت حكم الانتداب البريطاني، وما تلا ذلك من تداعيات، حتي انطفأ زهرها، وتقوس ظهرها، وتحولت " زهرة المدائن" كما تسميها فيروز.. إلي مدينة عجوز (عيوننا إليها، ترحل إليها كل يوم.. تدور في أروقة المدينة.. تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد ).


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد