من جذور العصامية (1)

mainThumb

23-11-2008 12:00 AM

.. بالطبع، كنا نذهب جميعـنا الى المدرسة الابتدائية مشيا على الاقدام (الموضوعة في إحذية شبه مهترئه بسبب الشيطنة، أحذية تعوزها ألمقدمة دائما ونعالها مبتسمة!)، ونقطع مسافات طويلة يوميا دون تعب، والقذى سمة على العيون ...جزء منها لأننا كنا نغسل وجوهنا خلال مدة لا تتجاوز الخمس ثوان، وحول الفم لون أبيض شبيه بالبودرة، سائل تجفف طوال الليل!. عندما كبرت قليلا أدركت سبب عدم تقبيلنا من قبل معظم الذين كنا نصادفهم من الاقارب و الجيران رغم حبهم لنا على ما أعتقد.... إنه القرف! .

وإذا ما أهلّ فصل الشتاء كنا نستقبل الامطار برؤوسنا المحلوقة(بقرش) على الصفر دائما... الحلاقة كانت تتم بدقيقتين على الاكثر... كنا نتمنى أن نكبر ليرشّ علينا العطر مثل الكبار، ونستقبل حبات البرد بأجسادنا المغطاة بملابس خفيفة (الركبتين وأحد الأكواع كانت دائما مكشوفة بسبب عوامل التعرية المتمثلة بالوقوع على الارض والمشادات أثناء اللعب – قضت أمهاتنا وقتا لا بأس به في ترقيع ملابسنا!)، وكانت أصابع أيدينا التي لم تنظف أبدا هي مقياس لدرجة حرارة الطقس.

فإذا لم نستطع تجميعها، فإن درجة الحرارة هي بالتأكيد دون الصفـــــــر المئوي( كان بعض المعلمين ، يرحمهم الله، مثل الساديين يتلذذون بضربنا على رؤوس اصابعنا غير القادرة على التجمع! و لإتفه الاسباب! مثل لطم خد الزميل بكامل الكف والمعلم يكتب على السبورة، أو عدم حفظ قصيدة لأن الجار قد توفاه الله، أو عدم حفظ جدول الضرب أو نقلنا مسائل العلوم والرياضيات والقواعد من طالب واحد وجميع إجاباتها غير صحيحة!، أو عدم إحضارنا علبة الهندسة أو محاية أو براية أو قلم أو محرمة أو إذا وجد المعلم بقع زيت على الدفتر أو عدم قص الاظافر – مين كان فاضي!).

علبة الهندسة كانت دائما غير مكتملة. إما الفرجار مكسور، أو ما هو مكتوب على المنقلة من درجات ممسوح أو المسطرة ربعها مأكول تماما مثل أظافرنا، إستعمال نصف اهل الحي كان يؤذيها قليلا، تماما كما كان يحدث للأطلس (كتاب خارطات العالم) مرتفع الثمن الذي استعملت نسخة واحدة منه نصف القوى العاملة في عمان اليوم!. بالمناسبة، كان صندوق الشكولاته الذي يقدم هدية في مناسبة ما قد يعود للمشتري الاول بعد سنة من قبل اناس يسكنون في حي آخر بعيد عن الحي الذي نسكنه!!!! الاشياء كانت سارية المفعول الى الابد.

وهبني الله موهبة الرسم وأنا صبي صغير، وبدأت امارس الرسم كمهنة وأنا في الصف الثالث الإبتدائي. كنت في ذلك الحين (عام 1963) قد إشترطت على الطلاب أن يدفعوا لي تعريفة (خمسة فلوس) عن كل رسمة تقدم لمعلم التربية الفنية أو معلم العلوم ، وقرش عن كل رسمة خارطة لمعلم الإجتماعيات ، وتعاملت بالدّين أي على الحساب في تلك المرحلة وكنت أقيم المدين بطريقة أفضل من بعض البنوك التي تعمل الان ! وأحيانا أطلب كفيل للمرسوم له أو لها!، وكانت بعض الدفعات تؤجل لأحد العيدين أحيانا، أو إذا عاد خال أو عم المرسوم له من السفر في أحيان أخرى.

وكنت أقبل بمبدأ المقايضة أي رسمة مقابل بيضة أو أكثر و كان ذلك يعتمد على درجة سطلان و هبل الطالب المرسوم له وأهله وعدد الدجاجات التي تبيض!، ولا أذكر أنني قد أعدمت دينا أو رصدت له مخصصات تودي بأرباحي !.

الخبر المفرح لي وقتذاك أن صيتي قد ذاع في مدرسة البنات المجاورة (سوق آخر)، فأصبحت أجمع ثروة من مدرستي البنين و البنات تقدر بأكثر من 150 قرشا اسبوعيا.

المدهش في الإمر أربع مسائل يجدر ذكرها هنا وهي:

1) أن سرّ قيامي بالرسم نيابة عن الطلاب قد بقي طي الكتمان لعاملين وهما أن الطلاب كانوا لا يتقنوا الرسم بتاتا وبالتالي كان همهم بإستمرار الحصول على علامة جيدة و/أو تجنب خيزرانة /عصا المعلم المؤلمة صيفا وشتاء إذا هم لم يؤدوا الواجب، ولئلا تتوقف مهنتي مصدر ثرائي.

2) إنني كنت أعرف أداء كل طلاب وطالبات المدرستين، وبالتالي كانت رسوماتي تلائم مستوى كل طالب وطالبة في المدرستين(بنين وبنات).

3) إنني كنت غزير الانتاج بشكل مدهش حقا.

4) إنني كنت إرسم للطلاب والطالبات اليتامى والفقراء بدون مقابل وبدون أي توجيه أو إرشاد من أحــد!.

فرحت أمي، أطال الله عمرها، وأخواتي بذاك الرزق الوفير الذي ظل والدي يرحمه الله لا يعلم به حتى كبرت !.

كنت لا أبخل على نفسي ولا على أفراد أسرتي وزملائي في الصف.

من ناحيتي كنت اشتري يوميا 8 حبات ملبس (بالعامية حامض حلو) بتعريفة، وأشترط على ابو رفيق ألبقال أو (السمان) ، يرحمه الله، تزويدي بأربعة مذاقات (النعناع، السوس، الليمون، الشكولاتة) ، ونصف رغيف فلافل أو رغيف حسب الجهد الشيطاني أو العفريتي الذي كنا نبذله أنا والاولاد، وكثيرا من العوامة أو كرابيج حلب أو هريسة أو دحدح أو راحة (حلقوم مع بسكويت) ! لأنني كنت أحب تناول الحلويات بشراهة، وكنت أحتفظ بثروتي تحت حجر كبير خلف البيت، أي أتهرب من الإفصاح لأمي عن كامل الدخل مثل غالبية جامعي الملايين الان بإعتبارها دائرة ضريبة الدخل في ذلك الوقت! .

الفرق بيني وبين المتهربين الان هو أنني كنت صغيرا جاهلا بما يمليه على الفرد الواجب والضمير. لقد مكنتني الثروة تلك من أن أشتري كرة قدم مرتفعة الثمن.

وأصبحت بذلك وجيها في الحارة بسبب ملكية الكرة فقط وليس بسبب مؤهلات اخرى، تماما مثلما يحدث مع الكبار الان في احيان كثيرة !!!.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد