هل يمكن ان نصل الى مجتمع مثالي .. ؟

mainThumb

22-03-2009 12:00 AM

في صحيفة الرأي الاردنية يوم 12/3/2009 ، قرأت مقالا للدكتور صلاح جرار ، نائب رئيس الجامعة الاردنية ، عن انطباعاته عقب زيارة قام بها لالمانيا ، والانطباعات منقولة من مدينة هامبورغ ، وهي شواهد على احترام النظام والقانون في الغرب ، وضرب امثلة على ذلك ، كمثل توفر رصيف للمشاة واخر للدراجات الهوائية ، والتزام الجميع كل برصيفه ، وحول الالتزام بالامتناع عن التدخين ، في الاماكن التي يمنع بها ، ومشاهدات اخرى تظهر احترام الالمان للقوانين .

هذه المشاهدات تثير الاعجاب لدينا دوما ، لاننا نفتقد مثلها ، خاصة انها لم تاتي من انسان بسيط ، يمكن ان يعجبه اي شيء في بلاد الفرنجة ، لكنها جاءت من انسان مثقف ، شغل منصب امين عام وزارة الثقافة ، وهو ايضا انسان اكاديمي ومسؤول حالي في الجامعة الاردنية ، وبالتالي فان اعجابه بالالتزام بالنظام في المانيا ، لم يكن سطحيا ، ولم يكن ليكتب عنه هذا المقال ، لو لم يتأثر به بعمق ، ولدت لديه غيرة وطنية ، جعلته يتمنى نفس المواصفات الراقية لشعبنا .

تأثرت بمقال الدكتور جرار ، وعقدت بيني وبين نفسي مقارنات اخرى غير التي اوردها ، بين الالتزام بالنظام لدينا ، والالتزام به في اوروبا ، وبالاخص في المانيا ، فقد عملت في المجمع الصناعي لشركة الفوسفات الاردنية في العقبة اوائل الثمانينات ، وكان هناك اثنان من الفنيين الالمان يعملون على تعديل توربينة بخارية ، كنا نحضر للعمل في السابعة صباحا ، لنجدهم قبلنا من السادسة صباحا ، قد قطعوا شوطا بالعمل ، وكنت وغيري نراقب التزامهم ، مع انه لم يكن احدهما مسؤول عن الاخر ، ففي الساعة التاسعة والربع صباحا ، يغادران موقع العمل الى غرفة مجاورة لتناول القهوة ، لتستمر الاستراحة حتى التاسعة والنصف بالضبط ، وفي الثانية عشرة والنصف ، يذهبان لتناول الغداء لمدة نصف ساعة فقط ، ونغادر في الثالثة والنصف ، بينما يستمران بالعمل حتى السادسة مساء بنفس النمط ، وكان هناك استراحة في فترة بعد الظهر لشرب القهوة ، تماما كما في الصباح ، هكذا كانا يعملان بدون رقابة ، وكان هذه الحالة وحالات اخرى ، مبعث اعجابنا بقدرة الالمان على الانضباط الذاتي في العمل ، لا بل ان مثل هذا الالتزام يجعلك تشعر انك امام آلة وليس انسان ، وليس كل الاوروبيين مثلهم ، فقد تعاملنا مع فئات اوروبية اخرى ، تحب اللف والدوران قليلا ، وربما ذلك كان يشعرنا بمتعة للتعامل معهم اكثر .

اعود الى مقال الدكتور صلاح جرار ، فلقد تغيرت مشاعري في ذلك اليوم ، وبعد ساعات من قراءة المقال ، بعد ان علمت بالمجزرة البشعة التي ارتكبها طالب الماني ، عمره سبعة عشر عاما ، عندما اقدم على اطلاق النار على المعلمين وزملائه في المدرسة ، وعلى المارة في الشارع بعد هربه ، فقتل اثنا عشر شخصا ، ثم قتل نفسه ، وهو كما صرحت مديرة مدرسته ، انسان عادي ، لم يكن يبدي اي مشاعر او سلوك عدواني .

وبالامس ايضا ، نقلت الانباء ان جريمة مماثلة حدثت في مدينة ليون الفرنسية ، حيث اقدم احد الاشخاص ، على اطلاق النار على مجموعة من الامهات ، قدمن لاخذ اطفالهن من الحضانة ، قاصاب عدة نساء بجراح .

وكثيرا ما سمعنا قصص مماثلة كثيرة تقع في امريكا ، عن مجازر يرتكبها اشخاص ، هم بالتاكيد غير سويين ، خاصة ان ضحاياهم ابرياء وغير معروفين لهم ، ولا يوجد ما يشير الى أي علاقة اصلا بين المجرم والضحايا .

دعتني هاتين الحادثتين وغيرهما ، الى اعادة التفكير قليلا ، وقد تبخر جزء من اعجابي السابق ، فلا يجوز ان يقتصر الاعجاب على ظواهر معينة ، لاننا نفتقدها في مجتمعاتنا ، فمثل هذه الجرائم التي تحدث في الغرب ، لا يقتصر تاثيرها على نتائجها المباشرة ، بل هناك تاثيرات نفسية سيئة لها ، ناتجة عن احتمالية حدوثها مستقبلا ، وهي بالتالي مدعاة لالغاء الاعجاب السابق او تقنينه على الاقل ، ولا داعي لجلد الذات دائما عند مقارنة انفسنا مع الاخرين .

مهما كانت الرعاية والاهتمام من الدولة لشعبها ، الا ان بعض حبات الزوان في القمح قد تفسده ، اذا لم ينظف القمح تماما ، جعلتني هذه الحوادث اتساءل ، هل يمكن يوما ان نصل الى حالة مثالية في دولة ما ، تصبح اساسا للقياس عليها ، والاقتداء بها في دول اخرى ، بحيث ينتفي فيها كل اشكال العنف والامراض النفسية والفساد ، وغيرها من بقايا الاوبئة الاجتماعية ؟ بالتاكيد سوف تدرس تلك الظاهرة الجريمة بعمق ، وسوف يكون هناك نتائج تؤشرالى سبب الخلل وتتم معالجته ، لكن هل سيمنع هذا ، من وقوع احداث مماثلة مستقبلا ، او اي احداث مأساوية مشابهة ؟ ربما يحتاج الامر الى دور اكبر لعلماء النفس ، وسجل خاص بالحالة النفسية لكل مواطن ، من مرحلة الطفولة حتى الكهولة ، لمتابعة اي حالة يمكن ان تشكل خطورة على المجتمع ، كحل طويل الامد لمثل هذه الجرائم ، وربما يحتاج الامر ايضا الى حل مباشر ، يتمثل في التشديد على اقتناء الاسلحة ، او منع اقتنائها نهائيا .

m_nasrawin@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد