عبث الإنسان بالكون والطبيعة

mainThumb

06-11-2009 12:00 AM

الدكتور :حسن فالح البكور

إن الكون بما فيه من أحياءٍ وجمادات يسير بنظامٍ دقيق واتزانٍ عجيب، يبرهن على أنه من صنع خالقٍ.وفعل فاعل، لا يحيط بكنهه وطبيعته عقل المخلوق وفكره القاصر، لأن كلّ أعضائه وجوارحه وحواسّه محدودة القدرة ومحصورة الطاقة، عاجزة عن الإدراك الحقيقي لكثير من الأحداث الكونية، ولعل كثيراً من الناس قد انقلب وضعهم من دائرة النظام ليسقط في دائرة الفوضى.

لقد أخضع الإنسان الذي تمّرد على قوانين الله كل ما في الوجود إلى عقله وهواه، وفسّ?Zر الأحداث كما يعتقد، فناقش بغير علمٍ مسائل في البعث والحساب، وجادل في الفقه وأصول الد?Zّين مجرّ?Zداً من كنوز العلم والإيمان، وتفلسف فيما وراء الطبيعة وخاض في قضايا الجنة والنّار، وربما أنكر عذاب القبر وسؤال الملكين، وربما يدفع به الغرور إلى تفسير ظاهرة المدّ والجزر، والرياح التي تسوق السحب، والبرق والرعد، وكسوف الشمس، وخسوف القمر، والزلازل والبراكين، والنهاية المحتومة للإنسان، ربما يدفعه ذلك إلى الاعتقاد بأن هناك قوة من رحم الطبيعة هي المسؤولة عن هذه الأحداث.

ذلك هو المثال على تفكير عينة كبيرة من البشر دفعها عقلها الذي لوّثته الفتن ومغريات الدنيا ومتاعها الزائل إلى تناسي الحقيقة الجوهرية وهي " لكل فعل فاعل، ولأن الأثر يدّل على المسير فلا بدّ لليّل أن ينجلي ولا بدّ للحق أن يعتلي، وللباطل أن ينزوي، ويختفي بضوء نور الحقيقة.

ولم يقف إنسان اليوم عند هذا الحدّ من التعنُّت الفكري الذي يُعاند فيه سنة الحياة، وناموس الكون، بل تجاوز الحدّ في السير على خطى أساتذته من أمثال فرعون وقارون وقوم صالح وقوم لوط، فمارس الرذيلة، وعاقر الخمر، وجاهر بالمعصية، وحرم الفقراء من زكاة المال، وتفنّن في الأباطيل وأصناف الزور والبهتان,ولعلّ إنسان اليوم – إلا من رحم رب?Zّي – قد سخّ?Zر علمه فيما لا يُرضي ربّ العباد، فطوّر قدراته التي تسابقت في الميدان فصنعت القنابل الإنشطارية والنووية، ودكّت بها من غير هوادة أو رحمة دولاً وأنظمة وحضارات لا ذنب لهم سوى أنهم قالوا بجرأة وشجاعة، أنتم أعداء البشرية، سخّرتم علومكم لاستعمار الشعوب بحجة تصدير الديمقراطية الزائفة ، فنهبتم خيراتها، وفطمتم أطفالها بالخنجر المسموم قبل حين الفطام، ودنّستم مقدّساتها وعاث مدّعو الحضارة والرّقي وأصحاب ثورة المعلومات بجماليات الحياة فاستحالت أطلالاً بلا حياة.ويمعن الإنسان عن سبق إصرار وترصّ?Zد – باحتكار الحقيقة والمعرفة والإيمان، ولربما لا يملك من العلم والمعرفة سوى الأسماء والعناوين، أو تتلمذ في منتديات اللهو ومسارح الرقص والغناء، ورمي المفك?Zّرين وأصحاب الأقلام الرفيعة بالخروج على القانون، لأنه غارق في وحل الرذيلة ومستنقع الحياة فعُميت الأبصار عن رؤية الواقع بكل أبعاده وتفاصيله، وحاول هؤلاء تغطية واقعهم المرير بإغلاق نوافذ الحقيقة إليهم، وإطفاء الأنوار التي تُسلط على ظلمهم وفجورهم، فعكسوا الأضواء على تلك الفئة المستقيمة ومزجوها بظلمهم ونورهم المزعوم الخادع، فصدّقها السائرون على سبيلهم وشاركوهم في تشويه الحقيقة وإطفاء نورها، ولكن هيهات هيهات أن تنطلي الحقيقة على العارفين والسائرين على منهج السماء، إنهم يحاولون إطفاء نور الله في الأرض ولكنهم عاجزون، ولقد صدق الله العظيم حينما قال في محكم التنزيل " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ".

إن عبثهم قادهم إلى أن يسرقوا ابتسامة الحياة، فأحالوا الربيع خريفاً والشتاء صيفاً، والنهار ليلاً، والنور ظلاماً، والعلم جهلاً، والورد شوكاً، والسّ?Zمو حضيضاً، والتقدّم تخلّفاً، والمقاومة إرهاباً، والتعقل جنوناًن والحب كرهاً، والإيمان كفراً، والعدل ظلماً، والأمانة خيانة، والزهد مجوناً، والزكاة تبذيراً، والوفاء غدراً، والتسامح ذُلاً, لقد عبثوا في كل مجالات الحياة فخاضوا في الاقتصاد وغيّروا كثيراً من مفاهيمه ومصطلحاته لتوافق أهواءهم، فسمّوا الر?Zّبا فائدة، والاحتيال على الأبرياء مهارة وفناً، فأسسوا الشركات الوهمية التجارية " البورصة "لتكون مظهراً من مظاهر هذا الاحتيال، وسمّوا غسيل ألأموال تجارة، .... والأشد إيلاماً من هذا وذاك تجارتهم بأعضاء البشر، فكان الفقير المحتاج هدفاً يصطادونه إينما كان.وتُتوّج تجارتهم بالمخدرات التي تفتك بعقل البشر، وتفقدهم الصّ?Zواب فما يعودون كالبشر، وإذا بحثت عن تجارتهم في المال والذّهب عثرت على مزّ?Zور من المال وحديدٍ مطليًّ بالذّهب، وإذا أكلت من أطاييب الفاكهة في أسواقهم استعجلك الداء والمرض، وربما اشتهت نفسك لحم طيرٍ فاشتريته بباهظ الثمن، فكان نتاج كائنات عفا عليا الز?Zمن، ويصل بهما العبث إلى بيع الأرض والعرض والوطن إلى غريب من وراء البحار على متن الر?Zّياح حطّ?Z الر?Zّكاب على السهل والجبل فكان هو الأصل ونحن الغرباء بين الأهل في الوطن.

وأما الثقافة فمهوى العابثين ومعراجهم وما زالت وإلى الأبد، هوّ?Zدوا ثقافة الأوطان، ونصّروا وأمركوا حضارة البلدان، ومجّسوا وصهينوا هوّ?Zية الشرق من بغداد إلى مراكش واليمن، وحينما يسألون عن عبثية سلوكياتهم يُجيبون : حضارة الغرب مفتاح أسرار الكون إلى دُنيا الآمال والأحلام، وثقافتنا تناسب سالف الأزمان، وما عادت صالحة لزمنٍ تغيّ?Zرت فيه نظم الحياة وأساليب العمل، وتفجّر العلوم والمعارف، وثورة المعلومات. وأما لغتنا العربية الفصيحة لغة القرآن الكريم التي تعّهد ربّ البرّ?Zية بحفظها لقوله عزّ من قائل : " إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون " لم تكن في منأى عن سهامهم الطائشة وسيوفهم الخشبية ، فاتهموها بالعجز عن مواكبة عصر المعلوماتية، وتناسوا قول الشاعر حافظ إبراهيم على لسانها قائلاً :

أنا البحر في أحشائه الدّر كامنٌ

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

فيا ويحهم أبلى وتبلى محاسني

ومنكم وإن عزّ?Z الدواءُ أُساتي

رموني بعُقم في الشباب وليتني

عقمت فلم أجزع لقول عُداتي

إنّهم كالغراب ينعقون في كل المجالس، ويرمون لغتهم بالضعف والقصور عن لغات الأمم والشعوب، فراحوا يستبدلونها بلغات أعجمية، ويدعون للعودة إلى اللهجات العامية، ولم يقفوا عند هذا الحدّ، بل أزمعوا أمرهم على تطعيم العربية بمفردات أجنبية في الكتابة والمحادثة والمحاورة، وكأنّ?Z لساننا المبين لا يستقيم إلا بالدّ?Zخيل من مفردات تبدو في نظرهم مصدر الجمال, من مثل : باي، أوكي، قُد مورننق، قُدْ باين ماي لـ?، ي?Zسْ، نو، ?ـري قُدْ، ماي فرندز، بِيس، كوزّ، فاينال.... إلى غير ذلك من هذا الحشو الذي لا تفسير له سوى الترويج للغة الأجنبية لتكون بديلة عن العربية الفصيحة.

ولم تكن الطبيعة في منأى من عبثيتهم، فلوّثوا البيئة بالغازات السامّة المنبعثة عن المصانع ومحطاتهم النووية ومنتجاتهم الكيماوية، وكان الإنسان هو الضحية، فيدفع فاتورة باهظة الثمن من خلال الأمراض التي تنهشه وتفتك به، وأمّا طبقة الأوزون فتلقت صفعة كبرى عملت على إحداث بعض الثقوب في جدارها، فتسرّ?Zبت من خلالها الأشعة فوق البنفسجية فلامست جسد الإنسان وألحقت به الأمراض والأضرار، فكان ضحية هؤلاء الحيتان الذين عبثوا بحياة الإنسان، وأما البحار التي تُعّد مصدراً من مصادر حياة الآلاف من الكائنات الحيّة، فقد لحقها عبث الإنسان بمقدّرات الحياة ونظام الكون الربّاني، فانقرض كثير من تلك الكائنات بسبب التجارب النووية في المحيطات والبحار وتسرُّب كثير من الزيوت والبترول السّام الذي وضع حدّاً لحياة هذه الكائنات.

ويا للهول، ويا للفاجعة من مناظر غاية في الإتقان من صنع يد الإنسان تتحدّث عن تبذير وإسراف منقطع النظير، تلك هي ناطحات السّ?Zحاب في قلب البحار من نتاج مهندسين من شتى الأمصار والبلدان، وتحتضن في باحاتها الراقصات الماجنات اللواتي جلبنا بالمال من الشرق والغرب لإحياء عبث الإنسان بالكون والطبيعة، وفئات من الناس محرومة تلتحف السماء?Z وتفترش في الأرض العراء سعف النخيل والش?Zّيح والقيصوم وأوراق الشّ?Zجر، والكلاب – أجلّكم الله – طعامها يُع?Zدُّ بإشراف طبي?Zّ على مستوى رفيع، وتسترخي على فُرُش من حرير وم?Zّتكيًء عظيم في أبهى الـ?لل، وبعض الناس يبحثون عن فتات الطعام في الحاويات فهل من معتبر ؟إن عبث الإنسان بجمال الطبيعة والكون لا يتوقّف، فكل يومٍ نطالع على صفحته بأنباءٍ جديدة عن مسلسلات حزينة، وحكايات عجيبة، تسوق في عناوينها كيف يتفّنن الإنسان في تغيير معالم الطبيعة لخدمة طبيعته المريضة وأهدافه الرخيصة، ويتناسى أن خالقه لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، وحينما تُدقّ أجراس القدر يُساق العابثون أمام البشر والبحر والحجر، فيكونوا عبرة لمن يعتبر، فيُقال لهم لِم?Z عبثتم بالخلق والطبيعة؟ فلا يجيبون وتستيقن نفوسهم بحقيقة جلّ جلاله " كل نفسٍ بما كسبت رهينة " وقوله تعالى،" فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره ",فيا إلهنا ما أعدلك , تُمهل العابثين بنظام الكون ولا تهمل ، ويا ربّ?Z العباد ومولج الليل في النهار أعِنّ?Zا على تطبيق شرعك في الأرض، لنلقاك وأنت راضٍ عنّ?Zا، ولا تؤاخذنا بما فعل العابثون والسُّفهاء مِنّ?Zا يا عليّ يا عزيز يا قدير.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد