الملكية الدستورية

mainThumb

12-10-2011 05:39 PM

في الدولة الديمقراطية يجوز لنا أن نناقش النظم الملكية فيما إذا اتفق " المجتمع الديمقراطي " على الصلاحيات الملكية ودستوريتها.

ولكن هل يجري مثل هذا الجدل الذي يأخذ شكل المطالبة بالإصلاح , في دولة " غير ديمقراطية " أو" شبه ديمقراطية " ؟ وحتى نجد مدخلنا إلى ما نقصده بالتحديد نتساءل :-

 كيف نميز الدولة إن كانت " دولة ديمقراطية " بالمعنى المقصود لمصطلح الديمقراطية وبين دولة تدعي الديمقراطية وذلك من خلال ممارسة بعض الوسائل الديمقراطية , وهي الانتخابات التي تعتبر ممارسة أساسية في الأدبيات الديمقراطية , أي إنها (المقصودهنا الانتخابات ) شرط ضروري في الممارسة الديمقراطية , إلا إنها ليست شرطا كافيا ًلقيام المجتمع الديمقراطي . وكأي مصطلح دينامي له وقعه في الحياة العامة لأفراد المجتمع , فإن الديمقراطية لها معنى عمليا ًبآليات متفق عليها في تشريعات المجتمع وفي نظمه المفعلة وتشريعاته النافذة في الحياة السياسية وفي الأنشطة الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية والفنية , ولها كذلك منظومة قيم متداولة وشائعة تحترمهاكافة مكونات المجتمع وقواه وفعالياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بمختلف مشاربها وتنوع مآربها . ولا يجوز بأي حال من الأحوال أو تحت أي ظرف من الظروف العادية أو الطارئة , فصل الآليات والتطبيقات العملية لأي من هذه المصطلحات الدينامية عن منظومة القيم والضوابط التي تعتبر صفة ملازمة لذلك المصطلح وسمة من سماته الأساسية . ولتوضيح ذلك نقول :

 إن آليات الديمقراطية التي تشكل الانتخابات الحرة شرطها الضروري , يطبق في كثير من المجتمعات دون أن تكون تلك المجتمعات مجتمعات ديمقراطية , وهي توصف عادة بالمجتمعات شبه الديمقراطية , أومجتمعات الديمقراطية الشكلية , أومجتمعات الديمقراطية الكاريكاتورية , لأنها لم تستوف المتطلبات الضرورية واللازمة كي تكون دولة ديمقراطية . فكيف ذلك؟ في قيم الديمقراطية يتم احترام الرأي الآخر, وأحترام تراث العنصرالآخروتقاليده , واحترام معتقد العنصرالآخروعباداته من العناصرالمكونة للمجتمع , والاعتراف بوجوده وإقراره كمكون من مكونات المجتمع دون تمييزأو تفاضل وبتكافؤ الحقوق والواجبات.

فإذا افترضنا إن المساواة بين الأفراد من القضايا الجدلية التي تعكس كفاءة الفرد الشخصية وما يتركه سلوكه من انطباع لدى زملائه وأقرانه , فإن المساواة في احترام القيم والتراث ومعتقدات الأخرين خيارلا يقبل الجدل لإنه يمثل نتا ج تاريخ جماعي لثقافة مجموعة الأفراد الذين تخصهم , وفي القيم الديمقراطية , لا مجال للتسلط أو التفرد أو التسيد لفرد جهة حزب جماعة جمعية مجموعة أو الادعاء بالأولوية أو الأبوية على أي مكون من مكونات المجتمع , بغض النظرعن وزنها السياسي أو حجمها الاجتماعي أو انتمائها العرقي أو الطائفي أو الثقافي والتراثي ... في الديمقراطية لم تعد صيغ الأغلبية – الأقلية منزهة عن الممارسات الديكتاتورية , والتقلبات السلطوية , والاستئثار بمراكز صنع القرار واتخاذه , والتفرد في احتكار تمثيل الرأي العام والادعاء بتشكيل الإرادة العامة , بل أصبحت ثغرة من الثغرات التي طالها النقد الشديد واللاذع الذي بيّن تناقضها مع أبسط القيم الديمقراطية. وتتساوى في الديمقراطية مفاعيل الحكم الفردي مع مثيلاتها في الصيغ الأغلباوية ( من الأغلبية ) التي تتوهم حقها في التصرف دون اهتمام بمصالح الفئات الأخرى بغض النظرعن حجمها أووزنها في المعاييرالأخلاقية والحقوقية . ( أنظركتابنا : الديمقراطية , الحرية , التعددية , دار أزمنة , عمان 2011) في الديمقراطية فصل واضح وحاسم للسلطات , ولا سلطة فوق سلطة القانون , ولا شخصية أو شخص معفى من التزاماته القانونية ومن التقيد التام بأحكام القانون .

 في الديمقراطية لم تعد المسالة مقتصرة على من يحكم ومن يديرمؤسسات الشؤون العامة والخاصة , بل كيف يحكم وكيف يٌدير(أي فن الإدارة ), وكيف تتم مراقبة الحكام ومساءلتهم حول أي عمل يقومون به أو سلوك يسلكونه , دون ضغائن ومكائد . فالديمقراطية ليست وسيلة حكم أو طريق وصول الى السلطة في مجتمعات لم تعد متجانسة وهي أصلا ً, أي المجتمعات المتجانسة غيرموجودة ,كغاية في حد ذاتها, بل إن أي مجتمع من المجتمعات البشرية, مجتمعات تعددية في السياسة والثقافة والتراث والعقائد والانتماءات العرقية والطائفية والجهوية , إنها (المقصود الديمقراطية ) الطريقة المثلى لكيفية صنع القرارات وأصول تنفيذها بالتوافق والتراضي وبحق الاعتراض لأي أقلية وحق الفيتوعندما يتعلق الأمربالقضايا الدينية والقومية وثقافاتها وطقوسها ومراسيمها لدى أي فئة من المواطنين . ومن سمات الديمقراطية اعتماد اللامركزية في إدارة الشأن العام بحيث يجد كل مكون من مكونات المجتمع أمامه خيارات تنسجم ومعتقداته , ولاتحول دون ممارسة تراثه وطقوسه وتحقق له رغباته المشروعة , وتجسد بيئة عادلة لطموحاته وترحب بإبداعاته بكل يسر واحترام . وككل مصطلح دينامي وحيوي في حيوات الناس ومصالحهم , فإن الديمقراطية أيا ً كان شكلها أو نوعها أو نمطها ليست , ولايمكن لها أن تعمل وحدها في أي مجتمع أو تجمع بشري .

 وهي ليست منظومة متكاملة منفصلة يمكن الأخذ بمفرداتها وامتثال قيمها ونواميسها وتطبيقات تعاليمها لإقامة المجتمع الديمقراطي الذي تتغنى به الشعوب الديمقراطية , فهي وكي تفعّل معانيها ومضامينها وفضائلها وقيمها بحاجة ماسة الى أن يكون المجتمع,كي يصبح ديمقراطيا ً, متحررا ً من أي شكل من أشكال النفوذ الخارجي وأدواته وضغوطاته الشريرة , وأن يكون الفرد في ذلك المجتمع حرا ً.

 والحرية الفردية تضفي على النفس البشرية حزمة من الاطمئنان والاستئناس والأمان في التعايش مع واقعه الاجتماعي بإيجابية وأريحية . والحرية (ولا يضير استدام مفردة الحريات) الفردية من الحقوق الطبيعية للإنسان , حريته في إبداء رأيه قولا ًوكتابة وخطابة ورسما ً وفي خياراته المهنية والمعاشية وفي هواياته ومهاراته الفكرية واليدوية وفي تنقله وترحاله وفي الاعتراض والتظاهر والاعتصام وتشكيل الأحزاب والمنظمات الخيرية والمدنية , والتدين والتعبد وممارسة الطقوس الإيمانية التي تسكن نفسه إليها . وهي , والمقصود أيضا ً الديمقراطية , لا مبرر لوجودها في غياب أشكال التعددية بأنواعها , فالاختلاف وتعدد الآراء وتنوعها والصراع التنافسي على تحقيق الغايات والأهداف الفردية الذي تضع صياغته قيم المجمتع متعدد المواهب والقدرات ومتنوع الطرائق والوسائل وهو الصراع السلمي الذي لا تصلح أدواته ولا يستسيغ المجتمع نتائجه ما لم تكن معايير الديمقراطية تمثل المرجعية لدوافعه ووسائطه وأساليبه . التجانس في الفكر والثقافة والتراث والولاء والانتماء لم يكن له وجود منذ زمن آدم الذي تنوع الجنس البشري فيه بحواء . أي أن التعددية ليست أمرا ً طارئا ً في حياة المجتمعات وفي مبررات تكونها ونموها , وليست حدثا ً جرّته مصادفة اجتماعية أو بيولوجية أو انثروبولوجية , فهي واقع صميمي , لم يقلص من جوهر واقعيته تجاهله أو التجاوزعلى حقيقته المطلقة .

 بل إن التعددية جوهرالكيان الاجتماعي بغض النظرعن حجمه أو سلالته القومية أو عقيدته الدينية أو تراثه وتقاليده وهي المحفز الفعال لنشوء الحاجة الضرورية للديمقراطية .
وهكذا فإن المجتمع الديمقراطي هو ذلك المجتمع الذي أقرت دساتيره وتشريعاته وقوانينه وأعرافه الحريات الفردية وضمنتها من أي تلاعب أو مخادعة وإن دعت الحاجة في كثير من التجارب الديمقراطية الصادقة على ضرورة سن تشريعا ً فوق دستوريا ً, يشكل مثل هذه الضمانة , كما يضمن كذلك إقرار التعددية الدستورية كواقع حقيقي من وقائع مكونات المجتمع , تتساوى فيه هذه المكونات بالحقوق والواجبات دون تفاضل أو تحيز أو تمييز من إي نوع كان وفي أي مجال وُجد ومن أي سلطة أتى , واتفقت قواه على شكل الديمقراطية التي تختارها ونوعها بما يتفق مع مصالحها وينسجم مع إرادات أبنائها ويصون المجتمع من الوصاية على مصالح الناس وأخلاقهم , والتفرد بوهم الحق في امتلاك الحق في اختيارما يحقق لهم رغباتهم , والادعاء بتمثيل إرادة " الشعب " وتحديد رؤاه المستقبلية نيابة عنه , فقد انتفت قدرة الأوصياء والأدعياء على قوة إبصارمتفوقة ادعتها نخب سياسية وعقائدية , أو على بصيرة نيرة تختصم وحدهم . وهو بالتأكيد المجتمع الذي وعى بحكم معاصرته لواقعه عليه دلالات تاريخية لتجارب محلية وعالمية , وبحكم ذاكرته الثقافية , بأن تمتين الروابط والعلائق بين عناصر الحرية وعناصر الديمقراطية وعناصر التعددية يكفل ترقي العلاقات الاجتماعية إلى مستويات أكثر تهذيبا ً وتفهما ًفي التعامل فيما بين القوى الاجتماعية وبين الأفراد كذلك . ويرتفع مستوى أداء المجتمع إقتصاديا ً وتنمويا ًو تستقرالدوافع الإنمائية في سلوك المواطن لأهمية التغيير ودوام التطوير وضرورات التحديث, وتحد من غلواء التعصب والاستعلاء , وتهمش المتعصبين والعنصريين وتحاصر فكرهم التقسيمي والتصنيفي بإدراك حقيقة خُلق الإنسان الحضاري وطبيعته , وتجد العدالة بيئتها الفضلى كما تجد المساواة حاضنتها الطبيعية .

ولعل الاستجابة لروابط ثلاثية " الــــديمقـــراطـــية – الحــــريــــة – الــتعـــدديــة " في تصميم التشريعات والنظم المتفهمة لطبيعة العلاقة بين منظومة الحرية وسياقاتها التطبيقية , ومنظومة التعددية ومكوناتها الأساسية , ومنظومة الديمقراطية ووسائلها وطقوسها وقيمها المتداولة , هي النظم التي يتحقق بالتعاطي الشفاف بها " المجتمع الديمقراطي " الذي يمكن له اختيار شكل الحكم ونوعه وصلاحيات أطراف السلطة وهياكلها الخاضعة بالضرورة للممارسة الديمقراطية , حيث تتشارك كل مكونات المجتمع وعناصره بدون اسثناء أو استئثار أو استصغارأواستضعاف أو تهميش أو ادعاء بتمثيل الآخرين دون موافقتهم الصريحة والمعلنة أو افتراض فهم حاجات الناس ورغباتهم في صنع القرارات وفي مراقبة تنفيذها وحق محاسبة القائمين على إدارتها , وهذه المنهجية غالبا ً ما تكون شديدة الفعالية في تقليص حجم " الأغلبية الصامته " التي تشكل ظاهرة سلبية تنعكس نتائجها على تسارع الخطى قي ميادين التقدم ومجالاته .

ما أشرنا إليه من متطلبات قيام ( ولا أقول إقامة ) المجتمع الديمقراطي الأساسية , ليس من باب المقترحات التي تحتاج إلى تجربة عملية لكي تضع مصداقيتها على المحك , وليس من قبيل وضع " وصفة " لمعالجة معضلات مزمنة في الدول غيرالديمقراطية على شاكلة " وصفة سياسية – اجتماعية بديلة " وإنما تشكل الواقع الذي تقوم على أسسه تجارب مجموعات الدول الديمقراطية الغربية منها والشرقية ( الهند كمثال نابض بكل المعاني التي تمثلها الديمقراطية الاتحادية , واليابان وما جلبته لها ديمقراطيتها من تنمية تقدمت بها إلى مستويات قيادية وريادية تعلم الغرب من تجاربها , وقد استطاعت أن تحيد الضغوط الأميركية على استقلال قرارها وولاء مواطنيها ).

وهذه تجارب خاضتها تيارات سياسية ومنظمات حزبية وأفكار تجاوزت تقاليد الطاعة لما هو كائن والركون إليه والتقيد بطروحاته, وتفجير طاقات العقل الكامنة في أجواء من الحرية لا حدود لها ولا قيود مصطنعة عليها منذ زمن تعدى سبعماية سنة قبل الميلاد , وهذا بدوره يؤكد إن الديمقراطية تجربة إنسانية , وليست فكرة مقتصرة على حضارة بعينها بل على خبرة العديد من الحضارات , أو على ثقافة محددة , إلا إن تجربة الدول الديمقراطية ومواصلة النقد والقياس لوسائلها وطرقها تفوق إلى حد كبير تجارب الدول غير الديمقراطية والتي أصبحت في عداد الدول المتخلفة عن ركب السباق الحضاري المتأجج في العولم والتقنيات . ( كتابنا : الديمقراطية , الحرية , التعددية , دار أزمنة – عمان , 2011).

ولا يفوتنا أن نتذكر إن تاريخ الديمقراطية بنواياها الطيبة ومراميها الإنسانية الرقيقة لم يخف قدرة أعدائها أو مناوئيها أو معارضيها على استغلالها لأغراضهم وتحقيق مصالحهم المناوئة للقيم الديمقراطية والمتناقضة مع أهدافها ولي مفاهيمها وإلغاء طقوسها والانقضاض على قيمها , كما فعلت الحركات الفاشية , والأحزاب النازية في حقب تاريخية تلتها مأساة إنسانية ما تزال نتائجها شاخصة إلى اليوم . وهكذا فإن رافعي شعارات الديمقراطية, وكثيرو الشغف بها وصداحوا مزاياها ليسوا ديمقراطيين بالضرورة . ونعود إلى استفسارنا الذي بدأنا به موضوعنا لنستوضح مواقف الأحزاب والتيارات السياسية الأردنية التي ترى إن الإصلاح الحقيقي إنما يتحقق بنظام نيابي تتشكل سلطاته السياسية من الأحزاب التي تتمثل في مجلس النواب المنتخب من قوى الشعب , وأن تقتصر سلطات مؤسسة العرش على السمات البروتوكولية , والسلطة المعنوية كلما اقتضت الحاجة إليها .

ومثل هذا الطرح تتبناه بشكل رئيس أحزاب عقائدية من اليمين ومن اليسار, حزب جبهة العمل الإسلامي , حشد , والحزب الشيوعي , وبعض الفئات المؤدلجة دينيا ً ودنويا ً بالعقائد الوضعية. ونضيف إلى تساؤلنا : هل يمكن لأحزاب عقائدية , تتبنى عقائد بتشريعات تتبناها وأيدولوجيا ممنهجة في فكرها الاقتصادي والاجتماعي والقيمي , أن تقيم سلطات حكم ديمقراطية مستوفية لأسس قيام " الدولة الديمقراطية " ومبادئها الأولية التي تبنى على قواعدها دولة ديمقراطية ؟ ونضيف إن استيضاحنا هذالاعلاقة له بصحة العقائد واحترامها واحترام المدافعين عنها والداعين لها , فهي لها تجاربها في السلطة , ولها خلفياتها الفكرية الصريحة والواضحة , ولكن ما قصده الاستيضاح التعرف على علاقة هذه الطروحات بالديمقراطية , التي لم تتجنب قوى هذه العقائد وتياراتها وزعمائها المناداة بالديمقراطية ولمطالبة بها بالتظاهر والاعتصام والبيانات التي تعبر بها عن آرائها بهذا القدر من الحرية .

فهل فعلا ًهي مؤهلة بحكم نصوص أدبيات عقائدها وتشريعاتها للديمقراطية , ولمثل هذه المساحات من الحرية في التعبيرعن الرأي والنقد الحاد والاعتراض العلني على ممارساتها وعلى سياساتها ؟ آخذين في الاعتبار التجارب التاريخية التي تؤكد , إن تمتع الفرد بحرياته الأساسية دون مناهج الديمقراطية , وهم لا يمكن له أن يتحقق بأدنى مستويات الحرية المحفزة على العطاء والابداع , وإن إقامة ( ولا أقصد قيام ) ديمقراطية دون ضمان الحريات الفردية خداع للذات , ومناقضة لأبسط المفاهيم الديمقراطية وأعمقها بداهة, واعتماد كلا الركنين من أركان قيام المجتمع الديمقراطي لا تكتمل بهما وحدهما سلامة الدولة بدون الركن الثالث وهو التعددية بكل معانيها وميادينها ومجالاتها .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد