المواطنة الصالحة والنفاق الوظيفي خطان لا يلتقيان

mainThumb

18-06-2012 09:46 PM

 

كلنا نعلم أن الوطن هو مستقر الحياة , ومستودع المال , ومسكن الأهل والخلان والأحباب , وذكريات الطفولة وحنين الأصحاب , ومرتع الآباء والأجداد والمقر الذي ترتاح له النفس , فهو روح الحياة -- فالروح وطن لأنه مسكن الادراكات , والبدن وطن لكونه مسكن الروح , والثياب وطن لأنه مسكن البدن -- , وهو كما قيل انه ماء السبيل الذي يروي كل العطشى , وكقطعة الحلوى التي يستلذ بطعمها كل من يتناولها, وأن الوطن والمواطن جزءان لا ينفصلان فهما كالماء والطحين وعجينته التي يصنع منه الخبز , وأنه كاللسان للمواطن الأخرس , وكالبصر للمواطن الأعمى , وكالخيمة التي يلجأ اليها المواطن وقت الشدائد للاحتماء بها , وهو بسمة الطفل ,واحتضار الشيخ , والدم الذي يجري في العروق والشرايين والأوردة , وهو المكان الذي يستمتع فيه المواطن عند زرع شجرة أو نخلة , ثم يقطف ثمارها فيأكل منه ويطعم غيره من بني جلدته , فهو مزروع في قلب من يقطنه , يراه في جيبه لأنه المورد المالي الوحيد له ,  والرحيق الشافي لعلله , والرائحة العطرة التي تفوح في أرجاء المعمورة جاذبة اليها كل من يشتم رائحتها , وبعد كل هذا أليس لهذا الوطن حق ودين علينا بأن نكون عند حسن ظنه بنا فنكون مواطنين صالحين على ثراه نحبه ونفديه بأرواحنا ودمائنا ! ونشتريه بلحومنا وأنفسنا لا نبيعه كما يعمل الغير بشحمه ولحمه ! وأن نضحي الغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليه , وأن نرى ذلك واجبا مقدسا لا كما يراه الغير ضربا من  ضروب الجنون ! فالوطن ليس كلمة ترد على أفواهنا فنرددها على ألسنتنا دون أن نعرف ماهيتها وجوهرها وما تستحقه منا , بل انها ملايين الأفعال والأفكار والمستندات والقيم والمثل الأعلى التي تعم فيها قيم العدل والمساواة والأمن والطمأنينة والقيم التي توفر العزة والكرامة  لأبنائها ! 
 
وبناء على ذلك فان المواطنة ما هي الا شعور بالانتماء واحساس بالولاء والاخلاص الى هذا الوطن , فهي تلك المكانة وذات العلاقة الاجتماعية والرابطة القوية بين الفرد الطبيعي والمجتمع السياسي (دولة) يقدم المواطن من خلالها الولاء والطاعة , ويتولى الآخر الحماية له من الأخطار المصيرية واشباع حاجاته الانسانية الأساسية المحددة بمنظومة من القوانين تحكم الجميع , فهي علاقة البيعة , والارادة الحرة التي هي أخلص درجات المواطنة . فالمواطنة الصالحة تقتضي المشاركة , فلا تقتصر على السياسة فقط , وانما تتجاوزها الى كل ما يتعلق بحياة الناس وعمرانهم وشؤون حياتهم العامة , وقد حددت الدولة الاسلامية عند نشأتها في المدينة المنورة معيار المواطنة من خلال الولاء للنظام العام , ورسخت ذلك في وثيقة المدينة المنورة التي كانت أهم دستور ينظم شؤون الجنسية وعلاقة المواطن بالدولة ,والتي تنص في أحد فقراتها على أن ( يهود بني عوف أمة من المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. فالمسلمون واليهود مواطنون في المدينة ، في بلد واحد ، لكل حريته الدينية ، يقفون صفاً واحداً أمام من يحارب هذه البلدة ، ويتعاونون ويتناصحون على البر دون الاثم وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.. ),  وأما الوطنية فقد اختلفت تعريفاتها عند الباحثين باختلاف مناهجهم الفكرية , فمنهم من جعلها عقيدة يوالي ويعادي عليها , ومنهم من جعلها تعبيرا عاطفيا ووجدانيا يدرج داخل العقيدة الاسلامية ويتفاعل معها , ومنهم من قدسها بحيث يصير الحب فيه , والبغض لأجله , والقتال في سبيله حتى يطغى على الدين عندهم وتحل الربطة الوطنية على الرابطة الدينية , فهي بالمجمل  حب الفرد واخلاصه لوطنه الذي يشمل الانتماء الى الأرض والناس والعادات والتقاليد والفخر بالتاريخ , والتفاني في خدمة الوطن والشعور الجمعي , والاستعداد لبذل أقصى جهد في سبيل بنائه , والاستعداد للموت دفاعا عنه . ولنتذكر معا قول الأصمعي في قوله  " سمعت أعرابيا يقول : اذا اردت أن تعرف الرجل , فانظر كيف تحننه الى أوطانه , وتشوقه الى أخواته , وبكاؤه على ما مضى من زمنه " , وكأنه يصف عاطفة الحب هذه بأنها الارتباط الكلي للانسان بالوطن الذي تلبى فيه احتياجاته الروحية والعاطفية الناتجة عن تعلقه بأرضه التي عاش عليها وترعرع بين جنبيها , وشرب من مائها , وأكل من خيراتها , وأنها الارتباط الوثيق بمن حوله وممن عاش بينهم وتعلق قلبه بحبهم وصدق أخوتهم , وخالطهم حتى صار معهم لحمة واحدة وجسدا متكاملا . فحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس تبعث في النفس الراحة وروح البقاء فيه , والحنين اليه في غيابه , والدفاع عنه اذا هوجم والغضب له اذا انتقص , والوقوف الى جنبه بالعمل الجاد المبني على المعرفة بحقائق الأمور مستخدما الفكر الناقد البناء لمواجهة المواقف التي تواجهه وتعالج مشكلاته . 
 
ان من مقتضيات الانتماء للوطن الافتخار به , والحرص على سلامته وتفعيل المراقبة الذاتية لتجنب الوقوع في المطبات اللاأخلاقية . فالمواطن الصالح هو من يرقب ذاته أثناء أداء واجبه الوطني حريصا عليه كشدة حرصه على نيل حقوقه , عاشقا للأرض التي يأكل منها , ومتوددا لكل من يعيش عليها ويقوم على تعميرها , والانتفاع بها وتذليل سبلها لغيره من الناس , وجعلها في أجمل حلة غير مشوهة بصور الفساد , ومحافظا على تاريخ شعبها وثقافته وحضارته , ومعطاء شديد العطاء . فالمواطنة ليست بالأخذ دون العطاء , وبالحقوق دون الواجبات , والتقاعس في أداء الواجبات, والتهرب من دفع الضرائب واستغلال الوظائف لتحقيق مكاسب شخصية. 
 
ان من مقومات المواطنة الصالحة التي لا بد من توفيرها لخلق مواطن صالح في بيئة صالحة مرتبط بحب الوطن تتجلى بالتحلي بأخلاقيات المسلم الواعي بأمور دينه ودنياه , وبتعزيز الثقافة الوطنية ,وببث الوعي بتاريخ الوطن وانجازاته , وباحترام القيادة السياسية , وبحب التماسك على الوحدة الوطنية , وبتهذيب السلوك والأخلاق على حب الآخرين والاحسان اليهم , وبحب المناسبات الوطنية الهادفة والمشاركة فيها , وبالتعاون مع أجهزة الدولة على الخير والاصلاح , وبالابتعاد عن المفاسد الادارية والمالية , وبحب الدفاع عن الوطن , ونبذ الحقد والحسد والنفاق والرياء .
 
 ومقابل ذلك نجد في مجتمعاتنا المواطنة الطالحة المنافقة التي تتمثل بنفر من الناس يطعنون بقيادتهم من الخلف ويتربصون بها الدوائر للالتفاف عليها حين ينضج وقتها باستخدام وتوظيف بسماتهم الصفراوية أو بكلامهم الملحن المنغم ,أو بالتصفيق الحاد عند كل جملة ينطقونها , أو بالترحيب الحار عند قدومهم , فهؤلاء هم الذين لا يعرفون معنى للمواطنة الصالحة بل هم من خلال أعمالهم تلك يعزفون على أوتار حساسة مكمنها الخداع والنكران للجميل حاملة في ثناياها النوايا الخبيثة المملوءة بالتظاهر الخادع المضلل وبالتملق الزائف والنفاق الوظيفي المصلحي الوصولي مرتدين أقنعة سوداء مظلمة تحوي في داخلها على مخططات الفساد والخراب مبيتين في قلوبهم النوايا الخبيثة للانقضاض عليها في حالة ضعفهم  .
 
 فالنفاق قد اشتق من كلمة "نفق" التي تعني تلك المساحة تحت الأرض يسودها الظلام الدامس ولها أكثر من مخرج يوصل الى سطح الأرض حيث النور والوضوح . وهذا هو حال المنافقين وما أكثرهم ! يعدون مخارج مشابهة لهم وهم لا يعلمون أن رسائلهم ومخططاتهم ومقالبهم ومؤامراتهم  ستنكشف ان عاجلا أم آجلا . فاذا أردنا أن نكشف عن أسباب ومنابع النفاق الوظيفي في ثقافتنا فعلينا أن نتنبه فورا لسريان ثقافة التسلط التي تتمتع بها الأنفس المريضة من قلة من المسؤولين الذين يتحملون الأمانة في مواقع عملهم , ويملكون السلطات التي تخولهم التحكم في رقاب العباد من رعيتهم حسب أهوائهم وأمزجتهم من تعيين وطرد ومضايقة لمن يخالفهم , فهذا لعمري هو السلوك غير السوي الذي لا يرتقي الى مستوى المسؤولية والأمانة التي وكلوا بها مما يدفع ويشجع  تلك الحفنة المنافقة من الموظفين الآخرين أن يحذوا حذوهم عند توليهم السلطات مستقبلا لاعتقادهم بأنهم وصلوا الى ما هم عليه بطرق التوائية ولايمانهم القوي بقرارة أنفسهم أنهم غير مؤهلين لأداء أعمالهم , ومن هنا يبدأ ظهور ثقافة الشللية والتشابك المصلحي بين الأفراد بمنطق " فلنخدمه اليوم وسيخدمنا غدا وهكذا الأيام تدور " . ومما يشجع على توفير هذه البيئة الخصبة لمثل هذه الثقافة البطالة التي انتشرت كالنار في الهشيم هو ندرة توفر الوظائف في سوق العمل التي تحثهم على التمسك بالوظيفة , والاستمرار بالتملق للمسؤول كي يبقيه في عمله اذ أصبحت الوظائف ضيقة كثقب الابرة , ومن أجل ذلك نراهم لا يمانعون بالتنازل قليلا عن كرامتهم متخذا كل منهم  مظهرا متملقا مع أفراد المؤسسة في سبيل البقاء . ان الثقافة السائدة في عالمنا اليوم التي تعلي من شأن سلطة أي مسؤول وتعطيه كل المزايا التي يستغلها في تحقير من هو دونه , تدفع بعض الأفراد الى التخلي عن اي ثوابت قيمية تحملهم على قول الحق , أو انتقاد أي أوضاع لا تعجبهم , وتخلق بدورها مواطنا مشوها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وخلقيا ودينيا ليس لديه القدرة على تقييم الأمور الا من منظور مصالحه الضيقة التي لا تراعي أي بعد قيمي , مما يؤدي هذا الى انسحابهم نحو التبعية في آلية أداء عملهم الوظيفي في ظل مثل هذه البيئات .
 
 ولقد ساهمت هذه الحداثة التي نعيشها في تأصيل ثقافة النفاق الوظيفي حيث تعرضت الى تحولات معرفية من قبل البعض لتسكينها في الجانب الايجابي لا السلبي حيث ظهرت معها مفردات وقيم مستحدثة يتداولها أهل النفاق الوظيفي في مؤسساتهم مثل "لتكن دبلوماسيا مع مديرك , المجاملة خير طريق لك لنيل الرضا , الصراحة ليست جيدة في كل الأوقات وهكذا ...الخ " , وظهر أيضا ما يسمى " بالنفاق المحمود " , وهو ببساطة تطبيق الغاية تبرر الوسيلة , أي لا مانع أن تكون كذابا اذا كان ذلك سيحل مشكلة لك , وكل هذا ليس نابعا من ثقافتنا الدينية والعربية الأصيلة التي شنت حربا شعواء على هذا النوع من النفاق اذ تعتبره العدو اللدود لأن الانسان لا يراه ولا يعمل له حسابا , وهذا ما يتضح في قول الله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين , يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون " . ان قلوب هذه النوعية من البشر مريضة , فهم يدعون الاصلاح وما هم بمصلحين , واذا خلوا الى شياطينهم بعيدا عن مسؤوليهم تتغير لديهم قواعد اللعبة قائلين انما نحن مستهزؤون . وهكذا يصبح النفاق هو الضريبة التي يدفع بها الفساد الفضيلة , فالموظف المنافق لا يهمه استشراء المحسوبية والفساد داخل مؤسسته ما دام الأمر لا يمس مصلحته , بل يصمت على كل التجاوزات ويشارك في التغطية عليها اذا لزم الأمر. 
ان من طبيعة المنافق أن يربط نفسه بالأداء الاستعراضي , فمنهم من يتحايل على ضعف كفاءته بحرصه المبالغ في لبسه وعلى أناقته , ومنهم من يظهر حبه المتفاني واعجابه الشديد لمديره , ومنهم من يظهر ذلك الرجل النشيط المجد الذي يعمل ليل نهار من أجل رفع شأن مديره أمام القادة الأعلى منه , والمؤسسة التي يعمل بها , وهذه النوعيات لا تعمل الا من أجل الشكل وليس المضمون. ونظرا لأن العمل الشكلي هو النتاج الحقيقي للنفاق فقد ظهرت عناصر استخباراتية داخل كل مؤسسة ادارية تسعى لمعرفة من مع المدير ومن ضده لأن منطق الولاء هو الذي يحكم الموقف وليس الكفاءة مما يساعد ذلك الى تعطل الانتاج . و بناء على ذلك فان من مصلحة اي مؤسسة أن تنشأ لائحة أو ميثاق عمل مبينة فيها أخلاقيات العمل من منظورها ملزمة كل العاملين التقيد بها , وتكون عقوبة رادعة لمن يخالفها . ولكن ما أدهى من ذلك وأمر وما يجعل القلب يعصر ألما هو عندما يشعر الموظف بأن ادارة مؤسسته لا تفي بوعودها للعاملين فيها مما يولد الاحباط لديه , وعدم التحفيز لتطوير عمله , وغياب اظهار ابداعاته وزيادة كفاءته وتفجير طاقاته الكامنة لصالح العمل .
 
 ان  غرس مبدأ الرقابة الذاتية التي تنبع من احساس الموظف بأن الله تعالى يراقبه قبل مراقبة المسؤول له , ووضع المصلحة الوطنية فوق المصلحة الشخصية لهما من أهم العوامل الفعالة في الابتعاد عن النفاق , فهذه الرقابة الذاتية هي التي كانت ترقى بايمان ذلك الراعي الذي مر به عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وطلب منه أن يذبح شاة مقابل الثمن , فاعتذر الراعي لكونه لم يأخذ اذنا من مولاه للتصرف في بيعها , وعندها قال له ليختبره : اذا سألك مولاك عنها فقل له : أكلها الذئب , فقال الراعي : فأين الله ! انها هي الرقابة الحقة التي تمنع من الخيانة وتعين الموظف على الأمانة . 
 
ان النفاق داء عضال وانحراف خلقي خطير في حياة الأمة , واذا نظر الانسان اليه نظرة الفاحص المدقق , لوجده طبخة شيطانية معقدة التركيب , وطمع بالمنافع الدنيوية العاجلة , وجحود للحق ونكران للجميل , وان اهل النفاق يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويفسدون في الأرض قولا وفعلا .فالمواطن المنافق هو الذي يسعى لتدمير بلده ووطنه ويدير العمليات التخريبية في السر والخفاء والظلام كالخفافيش التي تعمل بالظلام , فهو لا يحب الخير لوطنه , وينقض على يد من بايعه بسهولة حين تحين فرصته المناسبة . ان  مثل هذه العلاقات الوظيفية السلبية الناتجة عن سلوكيات خاطئة كالنفاق الوظيفي تصيب مناخ العمل بالتلوث السلوكي الأخلاقي الفكري الذي يحول أماكن العمل الى مساحات ضيقة , وميادين وعرة تهيمن عليها الفتن الوظيفية والمشكلات المتشابكة . فعلى المدير الذي يرغب في ترسيخ ثقافة التميز والابداع الوظيفي في الأداء وتحسين نوعية الانتاج في مؤسسته أن يتبع أساليب التحفيز المتميزة وفتح قنوات الاتصال مع جميع موظفيه من باب اتاحة حرية التعبير وتوصيل اقتراحاتهم للادارة  العليا دون حواجز او فلترة لآرائهم .
 ان من مظاهر النفاق الوظيفي هو اعطاء الانسان لنفسه صورة حسنة مغايرة للواقع فيخون المسؤول ولا يلتزم بشروط العقد , ويطعن من أحسن اليه من الخلف , وعلامات المنافق واضحة اذ نلاحظه مرتبكا ومتذبذبا في المواقف , يتحرك وفق مصالحه المرحلية , فلا يعيش حالة المبدئية في حياته , وهمه الوحيد أن يبرمج حياته لكسب الوجاهة الاجتماعية , ولسان حاله يقول كما قال ابو العلاء المعري :
 
أنافق في الحياة كفعل غيري                       وكل الناس شأنهم النفاق
 
ومما يزيد القلب ألما ومرارة أن ترى المسؤول المخدوع بمثل هذا المنافق , يظهر حبه ووده وتقربه اليه وهو لا يعلم أنه أشد أعداءه , وكأن هذا الحب أصبح كالبدر في جماله وهو لا يعلم أن القمر له خسوف وفي نهايته يلقى غدرا . ان الوفاء الذي يجب أن يكنه الموظف لمسؤوله والمؤمن بوطنيته الصادقة هو كمثل قطرات الندى على الزهرة الجميلة , وأن الخيانة التي يتمتع بها ذاك المنافق كالحذاء البغيض الذي يدوس على تلك الوردة العطرة الجميلة فيسحقها. وانا لا أضع اللوم كل اللوم على ذاك المنافق بقدر ما أضعه على مثل هذا المسؤول الذي يبادل مثل هذا النفاق بالترحاب والتهليل حتى وصل الأمر في بعض الأحيان الى أن يخاف المسؤول منه بدلا من خوفه منه ! ان هذه الشرذمة المنافقة تمارس لعبة المديح المزيف , فهي البطانة المضللة الضالة التي لها أحلامها الوصولية والنفعية . ان هذا النفاق الوظيفي مرض خبيث يجب استئصاله من جذوره لأنه يحمل في ثناياه عمليات الهدم , انه الداء الذي دب الى قلوبنا بدبيب أخفى من دبيب النمل , وهذا الشاعر المتنبي الذي كان أكثر الشعراء موهبة في المدح , ويكفي أن تقرأ مدحه لكافور الاخشيدي - اذ كان يستخدمه كأسلوب للعيش واكتساب العطايا والنفوذ- قد ذمه بعد توقف عطاياه له . ومن أقوال شعره في هجائه له : 
 
صار الخصي امام الآبقين بها                  فالحر مستعبد والعبد معبود
 
لا تشتري العبد الا والعصا معه               ان العبيد لأنجاس مناكيد
 
وهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد كتب شعرا في مثل هؤلاء المتملقين قائلا :
 
لا خير في ود امرئ متملق                    حلو اللسان وقلبه يتلهب
 
يلقاك يحلف أنه بك واثق                      واذا توارى منك فهو العقرب
 
يعطيك من طرف اللسان حلاوة              ويروغ منك كما يروغ الثعلب 
 
وهذا الامام الشافعي رحمه الله يصفهم قائلا :
 
سلام على الدنيا اذا لم يكن بها              صديق صدوق صادق الوعد منصفا 
 
ويقول في موقع آخر :
 
لوكان حبك صادقا لأطعته                 ان الحب لمن يحب مطيع 
 
وهذا شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بت ثابت له في ذلك رأي فيقول:
 
وكل أخ يقول أنا وفي                     ولكن ليس بفعل ما يقول
 
سوى خل له حسب ودين                 فذاك لما يقول هو الفعول
 
واحر قلباه وواأسفاه على البعض من مواطنينا ومسؤولينا من يحصر معنى المواطنة في ترداد الكلام , ومداد الأقلام , ورفع الشعارات في المناسبات الوطنية متناسين أن ذلك هو جزء يسير من المفهوم الكبير للمواطنة الصالحة التي تعبر عن نظافة القلب والعقل من الغش والكذب والخداع في الباطن والظاهر , ونظافة السلوك في التعامل ! انها المواطنة التي تبدأ بالسلام والبسمة في وجه الآخرين وتمتد الى مبايعة القيادة الهاشمية قولا وعملا !
 
انه من العقوق للوطن أن يرفع المواطن علم بلاده وصورة قيادته من نافذة سيارته وهو يرمي القاذورات من نفس النافذة , فالمواطنة صدق في الولاء والانتماء , وجد في العطاء , وصبر في البلاء , وشكر في الرخاء . انها نزاهة القلب والعقل واليد والقلم ومشاركة الناس في الأفراح والأتراح , وحفظ للأعراض والذمم , فلو تمكنا من تحقيق جزء من هذه المواطنة الصادقة الصالحة قولا وعملا لتمكنا من بناء وطن شامخ بلبنات مباركة صادقة وارتفع وطننا عاليا ليصبح مضرب المثل في الرقي والتقدم والتآلف والغنى بين الأمم , وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول " لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبد الرزق " . 
 
ان من ينافق لمسؤوليه لكسب منفعة ما, لهو ذلك الشرير الذي يدعي الود وهو أبعد ما يكون عنه غير آبه بالمشاعر , ومستهتر لعوب ,  وفي فعل الرزايا والمعرات  دؤوب , يرى الناس صغارا وهو أصغرهم , ويزعم الدراية وهو مغلوب , تأخذه العزة بالاثم وهو الى أضعف خلق الله منسوب , ينهش في هذا ويأكل ذاك ويحب أن يأكل لحم أخيه ميتا وهو مندوب , فليتوقف قليلا وليعلم بأنه في النهاية سيوضع في قبر مظلم , وسينام نوما طويلا في الرمس مرعوب , فليعد الى رشده قبل فوات الأوان , وليهجر خصاله السيئة فانه عليها معتوب , وليحذر المسؤول العاقل الواعي من مثل هذه العينة المتلونة وليتخلى عنها وقت اكتشافه حقيقتها  , وليأخذ بنصيحة الامام الشافعي حيث يقول:
 
اذا المرء لا يرعاك الا تكلفا                         فدعه ولا تكثر عليه التآسفا 
 
فما كل من تهواه يهواك قلبه                        ولا كل من صافيته لك قد صفا
 
اذا لم يكن صفو الوداد طبيعة                       فلا خير في ود يجيء تكلفا
 
ولا خير في خل يخون خليله                       ويلقاه من بعد المودة بالجفا 
 
ويقول في موقع آخر :
 
واذا الصديق رأيته متملقا                           فهو العدو وحقه يتجنب
 
ان النفاق الوظيفي آفة معدية ومؤذية للوطن تؤدي الى قطع حبال النسيج الاجتماعي بين افراده بمقص أعمى لا يميز بين الصالح والطالح , وعلى العقلاء أن يكونوا على درجة كبيرة من الوعي للتعامل معها بحكمة لاستئصالها من جذورها  , لأن المنافق لا يهمه الا مصلحته الآنية الأنانية واضعا اياها فوق كل اعتبار , للبقاء في مراكز القرار يزاول طقوس تحمله للمسؤولية في جو قد أصابته العدوى بجراثيم الجشع الاحتكاري والفكر الانتهازي والمن المتأفف . انه مدعاة لتغييب الكفاءات واقصاء المبدعين والمنتجين من أبناء  هذا الوطن وتدمير العقول الطموحة المنطلقة لأفق منير , واهمال لأقدار الرجال الأكفاء وتقديم من هم دونهم , ومتاجرة بقضايا الأمة ومقدراتها , وفقدان الأمانة التي هي من أساسيات المواطنة الصالحة , وغياب المحبة والتعاطف والعاطفة نحو الأرض التي يعيش عليها ويتنعم من خيراتها , ونكران الجميل وجحود النعمة , وكفران الاحسان , والتربع على عرش الفساد , واضاعة الحق , ونشر الظلم والاعتداء على مصالح الوطن , وطمس معالم المواطنة الصالحة . ان من يتقن فن النفاق كالذئب الذي يلبس ثياب النعاج  أمام مسؤوليه وفي كل مراكز القرار تارة , ويذبح بقرة الثقة عندما تحين الفرصة المناسبة بخنجره الغادر المسموم ليصنع من دمائها نخب الانتصار , وليغزل من صوفها مختلف أشكال الخطط التربصية وحياكة أرقى أنواع الفبركة التآمرية الخاضعة لأسوأ قواعد اللعبة الوظيفية التي تهتدي بهدى الاملاءات الشيطانية الرافضة لكل الأخلاق الفاضلة داخل كواليس العمل الوظيفي تارة أخرى , ودعنا نقول كما قال عبدالله بن أم مكتوم كما يروى عنه وهو آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح " يا حبذا مكة من وادي , أرض بها أهلي وأعوادي , أرض بها تغرس أوتادي , أرض أمشي بها بلا هادي " .
 
وبناء على ما قدمته من صفات للمواطنة الصالحة وللنفاق الوظيفي , فأنى لهما أن يتجاذبا ويتقاربا ! وأنى لهما  أن ينصهرا في بوتقة واحدة ! وأنى لهما أن يتحابا ويتصافحا ! فهما خطان يستحيل التقائهما , وليعلم المنافق أن المواطنة ليست سلعة رخيصة قابلة للمساومة عند تحرك عملية البيع والشراء فيرميها  في سلة المهملات عندما يبدأ بقضاء مصلحته ويقضي منها وطره , ويعد كل هذاهل يتوقع الفرد منا لأي مواطن قد انخرط في النفاق , وخان القسم ومبادئ الحق , وتوغل في متاهات اللعب بمقدرات الوطن , وأتقن فنون المرونة والتشكل القذر , وروج لبضاعته الفاسدة , وتفنن في استخدام أساليب الشيطنة الممنهجة المدعمة بلغة الدهلزة  والتلمزة , وسرق صدق المواطنة أن يخلص لوطنه ؟ وهل نتوقع منه أن يقدم التضحيات الجسام من أجل رقيه وتقدمه واعلاء كلمته ؟ وأن يفعل صفات المواطنة الصالحة لديه , ويسهر الليالي الطوال للحفاظ على أمن الوطن والمواطن وحماية مكتسباتهم ؟ ! ان الوطن أكبر من الجميع ولا يكون الاصلاح الحقيقي الا بالقضاء على هذا الكابوس المشؤوم من النفاق الذي عم مؤسساتنا , ورفرف بأشباحه على رؤوسنا , وأرسى بمغامراته الابليسية على شواطئنا , وحرك سلم الترقيات لغير أهلها بشكل صاروخي فاقد لكل فرامل الاعتدال , وأن الاصلاح لا يكتمل الا بالنزول الى ميدان العمل الحقيقي , والمساهمة الفاعلة الحقة في بناء الوطن لخلق تربة خصبة وبيئة صالحة قادرة على انبات جذور المواطنة الصالحة الحقة الهادفة , وعندها يستطيع المواطن أن يعرف ويتعرف على الفارق بين التنظير والتفعيل لهذا المسؤول أو ذاك . 
 
فما أحوجنا اليوم أكثر من الغد الى الاكثار من هذا المواطن الصالح الذي به يزدهر الوطن وتبنى فيه المجتمعات السوية ! والذي يحافظ على المال العام والمرافق العامة متعاملا معهما كتعامله مع ماله الخاص , ويعمل على سيادة القانون و خدمة وطنه باخلاص واتقان" فلا دولة فاضلة دون مواطن فاضل " كما قالها الفارابي ! وما أحوجنا الى الذي يقضي على شتى أنواع  النفاق آخذا وطنه الى شاطئ السلامة وبر الأمان !  فلا تمجيد الا للوطن ولكل من يفديه بروحه ودمه ولقيادته الهاشمية , ولا مداهنة على حساب حقوق المواطنين وقوت أرزاقهم  ووحدة كلمتهم , ولا تهميش للنخبة الوطنية  المثقفة الواعية المنتمية لوطنها وقيادتها المحاربة لكل النزعات الاستغلالية الانتهازية التسلقية المنتفخة بطونها من كثرة الجشع والتملق والرياء والرغبة في استعباد العباد !  ولا مساومة على جمال انسانيه الوطن ومبادئه وأخلاقياته وعظيم مقدراته ومكتسباته الوطنية !


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد