عند استعراض المصطلحات السائدة حتى يومنا هذا في العلوم الإنسانية بفروعها العديدة , خاصة ما يتعلق منها بمنظومات القيم الإنسانية ومبادئ السلوك الفردي المتحضر,وتلك المرتبطة بالنظريات السياسية وأصول الحكم ,والضوابط الاجتماعية وأحكامها,نجد إننا ما نزال نتعامل بذات المصطلحلت التي كانت سائدة في المدارس السياسية ومعاهدها والحلقات الفكرية وموضوعاتها والمنتديات الثقافية وقضاياها والمدارسالفلسفية ونظرياتها والتراث الإنساني وقيمه منذ ما قبل الميلاد بعدة مئات إن لم يكن عدة آلاف من السنين , حيث ظهرت قدرة الإنسان المحكمة على التوطن على كوكب الأرض وبناء المجتمع الذي انتقل من مرحلة التجمع الأسري الصغير إلى بنى الدولة بالصيغ التي ما زلنا نألفها حتى يومنا هذا.وهذا الفكرالعتيق,أي الفكر الذي يحمل في طياته بذورالتجدد ومواكبة الزمن ومرافقة عصوره بتغيرآلياته وأساليبه وتبدل شخوصه وأدواته,ارتبط هذا الفكرالعتيق بموضوعاته ووثق معانيه وترجم خبراته ليصبح مرجعية حاضرة المصطلح وجاهزة العبارة في الفكرالمتجدد الملتزم المفردات ذاتها في زحام أحداث العصر وما يليه دون تردد أو حيرة.
ويمكن اعتبارالفكرالعتيق بمثابة خميرة طازجة تستنسخ نفسها بخلاياها الذاتية لتبقي على فعاليتها وتصون صلاحها للفكروالأدب بمختلف الموضوعات وفي مختلف العصوروأزمانها التي ازدهرت فيها المنتجات الثقافية المستعينة بما أنجزته الفترة التي تلت نشوء عباراته وانبعاثها في سياق التكون الفكري لحضارات مختلفة المنشأ الثقافي متعددة المصادرالمعرفية والمعلوماتية. ولعلنا لا نخال أنفسنا مجددين في العديد من هذه المصطلحات التي نمثل عليها بما يلي :- الدولة , الحكومة ,الانتخاب, العدالة , المساواة , الديمقراطية , الحرية ,الحرب , السلام , الولاء للوطن ,الفقر, الغنى, الحب , الحقد , الوفاء ,العلم , الجهل....... لنجد إن ما تجدد مع كل هذا التقدم التقني والمهني والعلمي الذي حققته الابداعات البشرية من مختلف الأجناس في مختلف العصور بتعدد الحضارات الإنسانية وتجاوبها مع طبيعة التطور وحتمية التغيرالتي درج الإنسان على تحقيقها ومواصلة إنجازها في سباق مع الزمن وتسابق على تحقيق مستويات ريادية أكثر رفعة بين الأمم.وهذا ما يليق بتسميتها بالمصطلحات الدينامية. فقد ظلت هذه المصطلحات محورا من محاورهذا الكم الهائل من التطورالذي انسحب على وسائلها وتحسين أدواتها وعلى بعض من معانيها وعلى تطويرأشكال جديدة من كل منها تتواءم وزمنها وتتلاءم وبيئتها الاجتماعية محافظة على تراثها من القيم الإنسانية وقد توجتها إرادة سماوية ورسخت معانيها ومراميها.
ما زلنا لم تنفك ثقافتنا,ولم تجد مفرداتنا ,برغبة منا نحن بني البشر, أفضل من تلك المصطلحات ومفرداتها التي تناولها الفكرالإنساني (أي فكر الإنسان وليس بالضرورة فكرالقيم الإنسانية ) منذ العهود القديمة وحتى هذه اللحظة ,على الرغم من كل هذا التقدم التقني الهائل الذي حققته عقول بشرية بدوافع تلقائية سعت في أهدافها إلى إكمال السيطرة على الطبيعة ولجم ظواهرها والسيطرة على غضبها أو بعض منه, فوجدت نفسها أمام تحدي الفضاء لهذه القدرة , فاستهوت رغائبه على الولوج إلى أفلاكه وشموسه وأقماره وكواكبه وها هي اليوم تشكل أحد توجهاته النشطة والمغرية في تحديها وفي جاذبيتها التي تتكشف أسرارها وتتضح خباياها بما يثيرمزيدا من حماس الإنسان في العمل الدؤوب لاستكمال هذا المشوار.
كان القمرمثال غزل المحبين ومناجاة محبوباتهم بجماله ورونق ضيائه وبهاء أشكاله , وساد وصف الشكل الجميل للفاتنات بالقمر ولما ذهب الرواد من البشر إلى القمر,فإذا به ارض من تراب وصخروغباروقد شحت مياهه ولم تخضر روابيه , ومع كل ذلك لم يقف الغزل بين المحبين ولكن ضعف التوصيف بالقمرفي صيغ الغزل للمحبوب وأوصافه وتبدلت المباهاة بجمال القمر إلى تفاخر بالوصول إليه واكتشاف طبيعته وطوبوغرافيته والبحث الحثيث في سبل العيش على سطحه,واستثمار ثرواته,وتأهيل مواقعه السياحية والاستشفائية.
من أبرز المزايا التي تنسحب على هذه المصطلحات وعلى معانيها الأساسية في مراحلها الأولية إنها مصطلحات عالمية المصدر والمنشأ , وليست فكرا خاصا بمجتمع ما أو حضارة بعينها أو حكرا على أبجدياتها أو مبتكرا من مبتكراتها الثقافية ,فقد اتفقت كل الحضارات وثقافاتها على أن التعاون مع الأجنبي ضد مصالح وطنية يقع في خانة الجاسوسية أو الخيانة الوطنية أو كليهما, وهو فعل لا أقبح منه خطيئة بحق الوطن .
وإذا بحثنا ,على سبيل المثال,في مصطلح الديمقراطية الذي يشيع استعماله في كافة المجتمعات وبمختلف اللغات وتنوع اللهجات في الدول التي حققت مجتمعاتها الديمقراطية بأساليبها ووسائلها وقيمها واتضحت في ثقافتها معانيها التكاملية , أوالمجتمعات غيرالديمقراطية التي لم تعرف من الديمقراطية إلا بعض من وسائلها , وفي الوقت ذاته تعتبرها فكرا غربيا تدعو إلى مجافاته واعتباره فكرا مستوردا ووسيلة من وسائل التغريب الخبيثه. على الرغم من أن تاريخ نشوء الفكرالديمقراطي ومعانيه الأولية يعود إلى الحضارات الهندية والصينية والفارسية وغيرها إلى أن شهدت في الحضارة الإغريقية بلورة أساسية لمفهومها السياسي – الاجتماعي,بالعبارة التعريفية العامة الشهيرة الديمقراطية حكم الشعب, وأخذت الممارسة الديمقراطية مضامينها السياسية – الاجتماعية الحديثة بما تمخضت عنه التجربة الأوروبية الطويلة في الممارسة الديمقراطية مطورة معانيها ومحدثة أشكالها وأنماطها , ومطورة لدورها في ارتباطها بالحرية والتعددية , وأساليب إدراة الشأن العام بالمشاركة لكافة مكونات المجتمع والتوافق بين أطرافه وفئاته على القرارات المرتبطة بمصالحه الحياتية والثقافية والعرقية والإيمانية . والمشاركة دون التوافق تجارة خاسرة في سوق منهوب القوى المؤثرة في أنشطته وفعالياته. وما زالت الديمقراطية في أدبيات العصرالحديث ومصطلحاته تُعتبر من أفضل ما توصل العقل البشري إليه في البحث في أساليب الحكم وإدراة شؤون البلاد والعباد ,عندما توثق روابط عناصرها بروابط عناصر التعددية والحرية للوصول إلى المجتمع المتحضر.