يرى السيد كسينجر إن الربيع العربي والانسحاب العسكري من العراق ومن أفغانستان الذين غزتهما القوات الأميركية بحجة حماية الأمن الوطني أديا إلى إنهماك السياسة الأميركية في إعادة صياغة منهجة خطوات ومراحل سياسة الهيمنة ( وعقلية الهيمنة مسيطرة على العقل السياسي الأميركي منذ أكثر من 60 عاما ً,بعد الانتصار الذي تحقق في الحرب العالمية الثانية) وأسسها على العديد من الدول وذلك تحت شعار التدخل الإنساني !!.
ومن الجدير بالذكر إن من أبرز ركائز السياسة الأميركية الخارجية ,خاصة خلال فترة الحرب الباردة (يصف السيد كسينجرتلك الحرب بالمضللة) كان مناصبة منظومة الدول الشيوعية العداء العلني السافر والحاسم,وإقامة علاقات وثيقة مع النظم الدكتاتورية والضعيفة في مختلف دول العالم شريطة أن تكون الدولة (المحظية ) بالرعاية الأميركية معادية للفكرالشيوعي وتتعامل بقسوة بقمع المفكرين والمنتمين للفكرالماركسي ودعاة الاشتراكية الشيوعية , ولم تتوان أنظمة عديدة من ارتكاب المذابح بحق مواطنيها الشيوعيين والماركسيين كما حصل في أندونيسيا وفي بعض دول أميركا اللاتينية التي أعلنت عمالتها للسيد الأميركي فاستحقت الدعم المالي والتأييد لممارساتها القمعية بحق شعوبها ليس فقط من أميركا بل من دول الإتلاف الإمبريالي الغربي والتوابع من الدول المحمية بالعسكرة الأميركية وقواعدها المنتشرة هنا وهناك.
واعتقلت وسجنت وعذبت أتباع المبادئ الماركسية وأعضاء الحزب الشيوعي والأحزاب اليسارية والحركات القومية وأحزابهاوسجنتهم عديد من الدول العربية.
وهناك جملة من الأحداث التي شهدها المواطنون الأميركيون المنادون بالمثل الاشتراكية من معاناة مع قوى الأمن و الاستخبارات المحلية فقد كانوا يُعاملون معاملة الجواسيس.
وقد عبر علماء الاجتماع عن حالة الانفصام في التمسك بالمبادئ والمثٌل الإنسانية والمثل الديمقراطية وقيمها,والحريات الفردية وقداستها كما في الدستورالأميركي التي يُعاني منها الساسة الأميركيون بعامة ,بوصفها بظاهرة أطلقوا عليها تسمية ظاهرة [ التناقض الإدراكي] .
وقد كان للسيد جورج بوش الإبن الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية رأي واضح يعطي مثالا ً تقليديا, في هذاالصدد حيث يقول : ... فقد دفعتنا الأحداث وكذلك إحساسنا العام إلى التوصل إلى نتيجة واحدة هي إن بقاء الحرية في بلادنا يتطلب قهرالحريات في دول أخرى.
وكان أنْ عنّ لي يوما ً أن والدي لم يكن محقا ً ولا حكيما ً في احتضانه الطغاة وتوطيد علاقاته بهم على طريقته الخاصة في التضحية بقيم الحرية من أجل الحفاظ على استقرارتلك الدول. غير إنه أصبح لزاما ًعلي اليوم الاعتراف بأن أبي كان في غاية الحكمة والفطنة في سياسته تلك .... وقادته فطنته الموروثة عن أبيه إلى توريط أميركا بغزو أفغانستان والعراق ... يرى كسينجر إن الحرب الباردة التي دامت 30 عاما ً, أدت إلى تحولات استراتيجية حاسمة مثل إنهاء التحالف الذي كان قائما ً بين مصر والاتحاد السوفياتي,وتوقيع السادات معاهدة كامب ديفيد !!.
ويقر بإنه من الناحية الأخلاقية فإن على أميركا أن تنحازإلى التحركات الثورية في الشرق الأوسط , وذلك كتعويض لسياسات الحرب الباردة.ويعترف بأن الربيع العربي يتجلى في ثورة شبابية تمثل المبادئ الديمقراطية الليبرالية , ومع ذلك فإن ليبيا لا تحكمها هذه القوى.وكذلك مصرحيث الغالبية الانتخابية إسلامية إلى حد كبير.
وأما إجماع الجامعة العربية, يضيف السيد هنري, حول سوريا (لم يكن هناك إجماع بل تجاوز فج وأرعن ومبيت للتشريعات الناظمة لعمل الجامعة والمقيدة لأسس اتخاذ القرارات بالإجماع, تم خلاله تجميد عضوية سوريا في الجامعة , وهي من الدول المؤسسة لها,وما زال السيد العربي اليائس يطالب ,دون مراعاة للقيم العربية ,بالتدخل الأجنبي لتدميرسوريا ؟؟!!) لم تصغه دول سبق ,أن عرف عنها إنها تمارس الديمقراطية أوتدافع عنها, ولكنها والكلام ما زال للسيد هنري كسينجر,تعكس في معظمها الصراع القديم السني – الشيعي,ومحاولة استرداد الهيمنة السنية من الأقلية الشيعية. ما تحمله الإشارة السابقة التي ساقها السيد هنري, إلى البعد الطائفي الذي تبنته الجهات المستغلة للثورة الشبابية ,( المقصود الدول الثيوقراطية والحركات الدينية وداعميها ) من إثارة للمشاعربأسلوب لا يخلوا من خبث التذكير بما يحث على إثارة الدوافع الطائفية وكأنها جزء متمم يأتي في سياق الحديث حول النزعات التي يجري تحريكها بين آن وآخر,منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا الذي تقدمت فيه كل الأفكارالسلمية وإبراز دورها في استقرار المجتمعات ,وتعمقت فيه الممارسات الديقراطية وقيمها وتطورت فيه وسائل التفاهم بين المُختـَلفات والمتضادات واشتدت فيه الحاجة إلى ضرورة الحوار حول المتناقضات والمتنافرات من الأفكار والمعتقدات وتعمقت فيه أسس التعايش بين كافة المكونات التي تستند إلى حقيقة القيم التعددية وأزلية وجودها بحكمة إلهية ,نحن العرب أجدرالأمم على فهمها وتعميق جذورها في ثقافتنا وفي تعاملنا والدعوة لتبنيها,فقد اختارالله أرضنا لتقديسها, بأنْ اختارمن أبنائها الأنبياء للتبشيربالأديان السماوية وقام من عاش عليها من أبنائها بحملها وتبنيها وبنشرها في كافة بقاع الأرض. وهكذا,فقد تحولت, حسب ما يروج له السيد كسينجر(وهو القائل ؛ سيطرعلى الثروة الطبيعية تسيطرعلى الحكومة , وسيطر على الغذاء تسيطر على الشعب),ركائزالسياسة الخارجية الأميركية الموضوعة لحماية الأمن الوطني وتحقق المصالح الأميركية متعددة الجوانب , متنوعة الأهداف من شعارات دعم الطغاة وأنظمتهم تحت غطاء– دعم الحرية والديمقراطية - في دول لها مصالح بها,إلى شعار ذبح الإنسان وتفجيرمؤسساته وتدميربناه وتخريب اقتصاده تحت غطاء – التدخل الإنساني !!!– وفي كلا الحالين تكون المصالح الأميركية مغلفة بشعارات لمّاعة ولكنها مريبة مقترنة بسياسات براجماتية , بمنهجية غوغائية , وحملةإعلامية مضللة تضيع في أدبياتها دلالات المصطلحات ومفاهيمها الأساسية ومعانيها الأولية , ولهذا فإنه يمكن بدء إثارة الفوضى وتحديد مواقع الاضطراب وأماكنهما,وإشعال الحروب والاقتتال,ولكن غالبا ما تعجزهذه الممارسات عن التنبؤ بنتائجها أواستطاعة تعديل مسارها,وفقدان القدرة على تحديد نهايتها.
ومما نتعلمه من دروس التاريخ :-- إن الهروب من ميدان معركة إلى ميدان أكثر أمنا ً لا يعفي من المسؤولية التاريخية عن أسباب تلك المعركة ونتائجها.