اشتهرت عن السيد بيل كلينتون الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية عبارة إنه الاقتصاد يا غبي وذلك تفسيرا لدوافع التوجهات الشعبية والنخبوية في انتخابات الرئاسة الأميركية وتحفيزها .وعلى الرغم من زعم البعض إنه لا يرحب باستيراد الثقافة الغربية ,وإنه مع الوقوف بوجه التيارات التغريبية التي تكتسح عالمنا العربي الذي يسيرفي مواقفه السياسية والأمنية بعكس اتجاه تقوية مشاعرالمناعة الوطنية وإخماد جذوة الوشائجية التي من المفروض أن توحد جبهتها الداخلية ضد التدخلات الأجنبية المباشروالمتكاثرة في أطرافها التي تجد في المرجلة على الضحية فرصة (ثورية) تجدد فيها أطماعها التاريخية , وتبحث عن مكاسب تحققها على جثث أبرياءأوأناس مغرربهم مدفوعين بحكم الحاجة المادية إلى ارتكاب أعمال دون التدقيق في انتسابها إلى الأعمال الإجرامية أوالأفعال الخيرة!.
عندما يعزو الاقتصاديون مجرى أحداث معينة في المجتمع إلى الدوافع الاقتصادية وحدها,ويقفون عند تأثيرها لتفسيرنتائج تلك الأحداث وما آلت إليه أحوال البيئة الواقعة هذه الأحداث في جوانبها, نعذرهم لأنهم يروجون لفهم يتخصصون في علومه ويختزلون الأسباب بمبرراته بغض النظر عن سلامة هذا الاتجاه في التحليل والتفسير , وهذا يدعونا إلى إعادة التذكيربمنطلقات نظرية الربط وإحكام الروابط (ناقشنا عناصرهذه النظرية في كتابنا , التعددية والتنوع محركا التقدم والتطور:: عند نصها المتعلق بوجود أكثرمن عنصرواحد يتسبب بوقوع أي حدث أو قضية وإن فهم القضية يستدعي معرفة الأثرالنسبي لكل عنصرعلى القضية أو الحدث ). نجد,ولا نستغرب, بعضا من المفكرين والكتاب يعزو أحداث بعض الأقطارالعربية المختلفة الحالية إلى العامل الاقتصادي, مع إنهم يسمون هذه الأحداث بالثورات التي لا يمكن لسبب واحد فقط أن يفجرها,وهذا التفسيرفي حد ذاته يشكل نقيصة ثقافية ومعرفية معيبة.
لم تكن الأنظمة العربية ,بشكل عام,تعمل في بلادها وفق منظومات متوافق عليها من مختلف مكونات الشعب وتياراته السياسية والمدنية.ولم تتقن أي منها لعبة التحايل والخداع على الممارسات الديمقراطية الأصيلة,ولم تعترف بغيرها من القوى الفاعلة في المجتمع اجتماعيا وسياسيا كمؤهلة للحكم أو المشاركة فيه , ولذلك ظلت هذه النظم تلجأ إلى شرعنة البطش الأمني والتخويف والترهيب ,إلى أن غيرت أميركا محاوراختيار (أصدقاءها !!) لتشمل التيارات الإسلامية التي لا تمارس العنف إضافة إلى القوى الليبرالية ومجاميعها,متوهمة بأن ذلك يشكل مدخلا للوقوف بوجه التيارات الجهادية منها, أي نقل الصراع إلى داخل هذه التيارات وبينها (أنظرمقالاتنا السابقة حول دراسة : دعم الديمقراطية العربية ,لماذا وكيف,في السوسنة) وأوعزت (عبر بوش الإبن) إلى الرئيسين السابقين , المصري والتونسي بضرورة إتاحة الفرص أمام القوى الإسلامية ووقف احتكار السلطة,هذا من ناحية.
من ناحية أخرى,لم تكف القوى السياسية في تلك الدول في الداخل وفي الخارج (لم نشهد قوى معارضة مصرية أو يمنية في الخارج كما هو حال تونس وليبيا ...) عن العمل الدؤوب في معارضة الأنظمة الحاكمة حتى لا نتجاوزالتاريخ الحديث ونقفزعلى أحداثه كما تفعل قوى عديدة اليوم,فكانت حادثة حرق محمد البوسعيدي نفسه فرصة لتحرك نضجت مطالبه المحقة في الحرية والعدالة والخبزمنذ سنوات عديدة ... ولم تكن السبب الرئيسي أو الوحيد لثورة تونس الشعبية السلمية,ثم تلتها ثورة مصرالسلمية وبتشجيع ملحوظ من أميركا والغرب.
ثم ماذا حدث ؟ التفت القوى الإسلامية وتياراتها على الثورات التي فجرتها القوى الشبابية والليبرالية كونها الأكثرتنظيما والتزاما عقيديا , وساهمت في استكمال الحراك للتخلص من النظم السابقة. وهنا نسأل عن موقع السبب الاقتصادي وأثره في الثورة؟, بعد ملاحظة إن القوى الشبابية التي بدأت الحراك التحرري لم تعاني من الفقر,ثم نتساءل :هل كانت حركة النهضة في تونس فقيرة أو يعاني أي من أعضائها العوز والحاجة ؟وكانت كوادرها القيادية والفاعلة تعيش في باريس ولندن والسعودية وقطر(حلت جماعة الإخوان المسلمين نفسها في قطر, وتساعد قطرنشاطات الجماعة في كل أنحاء العالم ,ما عدا قطر!!) برغد العيش؟ وهل كان الأخوان المسلمون في مصروهم الأكثرحديثا بمناسبة وبدون مناسبة عن أن الثورة ثورتهم,أو أي من أعضائهم فقيرا أو محتاجا ولديهم كل ما لديهم من أموال ومؤسسات تجارية وخيرية واستثمارات مليارية في مصر وخارجها؟؟. وهل وجود تنظيم عالمي للحركة ينبئ عن حاجة مادية تقيهم شرورالفقر ومآسيه؟
الاقتصاد عامل مهم ولكنه في تاريخ الثورات, ليس هوالأهم هو دافع محرض أكثرمنه سببا موجبا ً.الحراكات التي يتم شراؤها بالمال لا تندرج في مصاف الأعمال الثورية أو الحراكات محمودة النتائج.الثورة في الفهم التقليدي تغييرجذري في أسس الحكم ونظرياته ومرجعياته وقياداته, والثورة التي تقف عند حدود تغييرفي أشخاص النظام هي انقلاب على النظام درجت عليه حركات كثيرة في وطننا العربي, واستبدال نظام حكم شمولي أو بوليآركي بنظام حكم شمولي احتكاري,هو استيلاء على السلطة , فلا هوانقلاب بفرصة واعية وقدرة تنظيمية مؤهلة للتحول إلى ثورة , ولا يمكن أوعلى الأصح لا يجوز لنا أن نصفه بالثورة.
هناك من المفكرين (هكذا يقولون عن أنفسهم) والمحللين السفسطائيين والقادة الحزبين ومنظريهم ممن يستعينون (بالصبرالمؤقت)على مواقف غيرهم الناقدة لما آلت إليه الحراكات العربية,بادعاء إن الثورة الفرنسية استغرقت مئتي (وبعضهم جعلها مئة) عام كي تستقر,فهل إهمال عامل الزمن منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم الذي شهد فيه العالم النقلات الهائلة والمتواصلة: الحضارية والوسائلية والفكرية والعقائدية , فيه تسفيه لمعنى الثورة في عصرنا الحالي واستهانة بالقدرة على التغيير,خاصة تلك التي لها علاقة بخبز الناس وكرامتهم؟.ثم إن الثورة ساقت فرنسا إلى ديمقراطية متجذرة في مجتمعها, فهل حكام ما بعد الحراك في تونس ومصرأحلوا الديمقراطية بعد تحريمها؟.
ثمة تساؤل آخرنطرحه, كيف يقبل منا عقلنا المعاصرأنْ نقارن جزئية في القاموس الديمقراطي في مجتمع لم يشهد الديمقراطية الأصيلة بجزئية في مجتمع عريق بالممارسة الديمقراطية؟؟ كأن نقول مثلا: في بلاد الإنجليزلم يضع الشعب الدستور,وإنما النخب هي التي وضعته؟؟.فلماذا لا نفعل ذلك؟!والجواب الساذج على مثل هذا الاستفسارالساذج ببساطة لأننا لسنا الإنجليز !!, (وهنا نقصد التفاضل في الخبرة الديمقراطية وليس التراثية أو الثقافية).
العقل المستنير,والمحلل المثقف, والسياسي المتمرس,وخبرة الوزيرالسابق في نظريات الحكم والسياسة يدرك بوضوح وجلاء الفرق بين نبض العبارة فلا يضعها في غيرموقعها , وبين نبض القضية التي تمثل أمام أعيننا فنراعي فيها استجابتنا واستيعابنا لمعانيها , فالقضية اليوم , ومنذ زمن بعيد يمكن لنا تلخيصها بمقولة :--- إنها الديمقراطية... يا ذكي --- إنها الديمقراطية يا بني آدم -