ستظل قائمة الأسئلة المحيرة لفكرالإنسان دون إجابات واضحة ودقيقة تشكل تحديا ثقافيا لتراث الحضارة الإنسانية ليس لأن الصعوبة تحول دون التوصل إلى مثل تلك الإجابات,وإنما لافتقاد الإجابات المعرفية الناقدة المقتدرة على مواجهة تراث ثقافي تراكمت في صحائفه أدبيات كثفت تركيزها على تاريخ ازدهرت فيه وقائع سجلت فيها انتصارات لا ريب فيها فسرتها بكومة من الأسباب التي رأت فيها صلاحها في كل زمن دون ملاحظة تغيرالوسائل الذي جعل من القيم التاريخية مرجعية مرتبطة بعصرها ومعارفه ومصادرقوته . وفي عين الوقت لم تجرؤ تلك الصحائف على تفسير أسباب النكوص والتراجع والفشل وقسوة الهزائم اللاحقة, وأخذت منحى التبريرالذي جعل من بعض القيم مرجعية ثابتة قطع صلتها بالزمن عن تعمد أو عن جهل بعلاقتها بالزمن ودوراته التي يصنع من خلالها تاريخ التقدم الإنساني والترقي في وسائله وأفكاره.
للتقدم شروط يمكن تصنيفها تبعا للمعنى الذي يحمله كل شرط : المعنى السلبي للشرط , والمعنى الإيجابي له.
ومن أبرزشروط التقدم التي تتصف بالمعنى السلبي أنْ لا تمنيات بعودة الزمن, ولا مبالغة في التعويل على أمجاد انقضت,ولا إمكانية لإعادة أحداث الماضي وإسقاطها أوأي منها على الحاضر بعد كل المنجزات العلمية والثقافية والتقنية والوسائلية التي حققها العقل الإبداعي البشري على مرالعصورمتجاوبة مع تغير الزمن وما يحمله هذا التغيرمن ابتكارات واختراعات وما يميزه من تبدلات تحكمها حاجة الإنسان الضرورية إلى السيطرة على المكان الذي يقطنه ومواجهة غضب الطبيعة وكوارثها, وجوع المعدة وآثامه وضيق المكان وغثاثته.أما المعاني الإيجابية لبعض شروطها فهي إن التقدم رهن بامتلاك المعرفة . وتبدأ المعرفة بتبني العلوم ومناهجها, وتكتمل بنيتها في تزاوج المعلومة بالخبرة يتلقاها العقل المنفتح برحابة ويستجيب لمدلولاتها بطواعية .والعلم لا يتوقف عند حدود التوصل إلى الحقائق ,لأن الحقيقة العلمية تظل مؤقتة حتى تأتي العلوم بمعالجة كل تفاصيلها بالتغيير أو الحذف أو الإضافة... والعلم لا يحده زمن ولا يتحكم به قانون بشري,لأنه وليد العقل والعقل حرما دام منفتحا.
كان التساؤل عن لماذا تقدم الغرب وتاخرالمسلمون يثيرالرغبة في النفوس لتحفيزها على جرأة تقويم أوضاعها التي ترافق معاشها اليومي بسياساته وتراثه وأعرافه,بزعاماته وقياداته اليسارية منها واليمينية والوسطية والمتطرفة منها والمعتدلة دون استثناء.سؤال لم تستعص الإجابة عليه لأن التغيير ظاهرة إنسانية طبيعية لا تعيقها أحداث تاريخية , ولا توقفها طبيعة جغرافية وإن تحكمت هذه العوامل في نوعية التغيير وفي سرعته وتسارع وتائره وأنماطه.
ونحن في عالم اليوم إن نظرنا إلى معدلات التقدم التي تحققها مجتمعات أسيوية وشرقية فنجد إن المسألة بين التخلف والتقدم ليس فيما يدين به الغرب من عقائد سماوية ,ولا يقتصرعلى شكل الحكومات ونسب القادة وأصولهم , ولا يرجع إلى تعاليم مدرسة سياسية بعينها,أومناهج علمية متخصصة محددة ,وليس هو بالتأكيد نابع من فكرمنفصل عن تراثه ,ولم توضع لأسبابه نظريات بمعادلات معقدة تحتاج إلى كم من العقول المبدعة دون سواها,لأن التقدم ليس خيارا يتيح لأي كان أن يقبله أويرفضه,فالتقدم إنجاز إنساني,إن لم تحققه أمة بعينها تكون مضطرة لمجاراته بالحصول على مخرجاته من الأمم الأخرى التي أنجزته.والفارق بين من يحقق التقدم وبين من يتبع محققيه ينعكس على التراث الحضاري للطرفين,طرف يتباكى على الماضي فلا يشفع الماضي له , وطرف يصنع المستقبل فيستجيب التقدم لإرادته.
أما إذا تفحصنا النظرفي منجزات الأمم في مجالات التقدم وميادينه ودرجاته ومستوياته ومجالاته بمجتمعاتها التعددية المؤتلفة بمستويات متنوعة من الممارسات الديمقراطية ودققنا في الرؤى الماثلة أمامنا لتقدمها,سيصعب علينا أن نميز لها قومية تنتمي إليها أو دينا بعينه أو تراثا حضاريا خاصا بقيمها أو فكرامحتكر في مدارسها وفي منتديات علمائها ومفكريها.فقد حققت العديد من المجتمعات مستويات مختلفة من التقدم بدرجات متفاوتة من الإنجازات,ومجالات تتعدد تبعا لإمكانت كل مجتمع الذاتية واحتياجاته التنموية الدينامية؛ منها إسلامية غيرعربية, وبوذية , وهندوسية , وسيخية , وكونفشيوسية, ويهودية, ومسيحية, وعلمانية , وملحدة من أصول متعددة وانتماءات إثنية متنوعة ... تتفاوت في احتضانها لقيم الديمقراطية وأنماطها , وتزاوج بينها وبين مقدمات الفكر السياسي والمنطلقات العقائدية التي تشكل الكيان السياسي – الاجتماعي لبناها الحزبية ومكونات القطاع الخاص ومؤسساته المهنية والفنية والثقافية ,وتظل بشكل عام مستويات الترقي متجاوبة ومتزامنة ومرتبطة بعلاقة طردية مع مقاديرالممارسة الديمقراطية السائدة في المجتمع.
التقدم إنجاز في العلوم والمعارف والفكَروالثقافة تترجمه الابتكارات والاختراعات والأفكار التجديدية إلى منتجات ومخرجات تسهم في ديمومته وفي وفي توليد فكر متجدد ورؤية متحفزة للاستزادة من هذه المخرجات وأدواتها.التقدم فعل حضاري يصنعه المجتمع وهومهمة مناطة بمختلف مؤسساته ومنظماته وتجمعاته وأحزابه ومنتدياته وصالوناته وأفراده أيضا ودورالمال فيه وسيلة ضرورية لصنع التقدم, وليس توفرالمال أنجازا تقدميا في حد ذاته ولا يمكن شراء التقدم بالمال ,خاصة عندما يكون استعماله مقتصراعلى شراء إنتاج الآخرين والاستعانة بخبراتهم والتصنيع بآلاتهم وقراءة مراجعهم العلمية في مناهج التدريس وإعداد الثروة البشرية وتطوير مهارات عمالها وفنييها بخبراتهم ,وهي الحالة التي استمرأ المال العربي الوفيرالاستكانة إليها من تجارة في الثروة الطبيعية غير العادلة وليس في أدوات استخراجها أو مهارة تكريرها أو مساعي تسويقها .....
التقدم في هذا السياق ليس واجبا من واجبات المؤسسات الرسمية,أي ليس متروكا للسلطة السياسية قيادة دفتيه وتحديد مساقاته والتبصر في منجزاته , فهو في جوهره واجب يساهم كل فرد فيه ,رجل أو أمرأة,صبي يافع أو طفل موهوب,مدرسة حديثة أو جامعة تقليدية,حيث يلعب كل من الفكر والإبداع والخيال والطموح والمحاكاة والمماهاة ... دوره في تعظيم الانجازات القادرة على تجاوزالروتين وتفعيل البيروقراطية وإطلاق حرية التعبيروحرية التفكيروحرية العمل,والتباهي بدورمنظمات المجتمع المدني وتحفيزها ونشرثقافة التغييربتنويرالعقل وانفتاحه على تجارب الآخرين وطروحاتهم التنموية وتنمية الفكربتنويع مصادرالمعرفة والتبصير بأضرارما يحرم التعرف على ما تتناوله ثقافات العالم ومعارفه من معلومات وخبرات ومعتقدات وعادات .