سلام عليك ..

mainThumb

29-08-2012 09:07 PM

 لا أدري  لماذا أتت على البال ابيات  من الشعر لأمير الشعراء من قصيدة عارض بها «سينيّة» البحتري، ولم تكن معارضته أقل جمالاً من الأصل:

 
وطني لو شُغِلت بالخُلد عنه
 
نازعتني إليه في الخلد نفسي
 
كان أحمد شوقي منفياً يومها في إسبانيا .. كان في الأندلس، يمتع العين والعقل والروح بما ترك العرب المسلمون في غرناطة وطليطلة واشبيلية، فتذكر سينية البحتري وهو يتجول في إيوان كسرى بعد مقتل راعيه وممدوحه المفضل الخليفة العباسي المتوكل، ولم تستطع تلك الأوابد الرائعة أن تنسي أمير الشعراء محبوبه وطنه..
لله در الوطن كل ما فيه  جميل ورائع.. الجبل فيه أجمل من الجبال كلها .. وسهله يبدو أرحب وأوسع .. بحره أنقى من بحور الدنيا وأكثر زرقة .. سماؤه أصفى .. وترابه أغلى .. حتى الشجر يبدو أكثر خضرة، والزهر أعطر، والثمر أشهى...و لكن أجمل ما في الوطن الإنسان .. الناس الطيبون .. الأطفال والشيوخ والعجائز .. النساء والرجال ..والاجمل من ذلك ذكرياته وقصصه العتيقة ... يا ترى ....هل كان ذلك الأعرابي يكذب حين وفد على كسرى الذي أخذ عليه عيشه في الصحراء، فقال الأعرابي «وهل العيش إلا هناك؟ والله لئن عدوت ميلاً أو ميلين حتى يرفض جسمي عرقاً، فركزت عصاي في الرمل، وألقيت عليها كسائي، ونمت في ظله، وهبت عليّ أنسام الصحراء، لهو أحب إلي من قصرك هذا» فقال كسرى: صدقت.
 
وما كانت ميسون بنت بحْدل (وهي أم يزيد بن معاوية) تكذب حين حنت إلى عيشها في البادية وفضلته على العيش في قصور الخلافة. فقالت أبياتها الشهيرة التي مطلعها:
 
لبَيتٌ تخفق الأرواح فيه
 
أحب إلي من قصر منيف
 
 وما كان ابن الرومي منصفاً وصادقاً حين قال:   
 
وحبّب أوطانَ الرجال إليهمُ
 
مآرب قضّاها الزمان هنالكا
 
لم يكن يتحدث عن الوطن بمفهومه الآن، بل عن بيت له أبى أن يبيعه، ولكننا نستطيع أن نقرأ الأبيات بمفهوم «الوطن» العصري، وتبقى جميلة معبرة:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
 
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
 
ليست المآرب التي تشد المرء إلى الوطن .. بل ربما لم يلق المرء في وطنه عُشر العُشر مما لقي في وطن هاجر إليه، ولكنه يظل يحن إلى وطنه، ويراه أجمل الأوطان....
 
أردن يا مهرا عربي أصيلا من عِتاق الخيل خلق حراً أصيلاً وسيبقى، وطني يا شجرة مباركة أصلها ثابت في أعماق الأرض والتاريخ، وفرعها سامق إلى السماء .. وطني يا اغنية الحصادين وتعويذة الخائفين وبسمة توردت على فم الوليد... وطني سنديانة لا يعلم إلا الله متى نبتت .. حطمت جذورها الصخر ونبتت .. تحدّت أغصانها الريح وبسقت .. تنادي الغيمة فتمطر وتسقيها .. تدعو النبع فيتدفق ويسقيها .. تدعو العصافير فتأتيها .. تمر فوقها الصقور فتهابها .. وتحتمي في ظلها الغزلان من بطش الوحوش الكاسرة. وطني غابة من سنديان، إذا عادت سنديانة إلى أمها الأرض، أو صارت ناراً تدفئ المقرورين، أو بابا يحمي المظلومين، قامت بدلاً منها أخت أو بنت لها، لتكمل المسير....
 
أنت تنزف يا وطني .. لا بأس .. ارو الأرض بالدم كما رويتها مئات السنين .. ادخل النار كما دخلها أبو الأنبياء، واخرج منها أقوى وأشد وأصلب .. اطعم الجائعين لحمك، وأسقهم دمك، وكن خبزهم وشربهم . انشر أوراقك سماء تحت السماء تحمي المقهورين، وانشد أغنيتك السرمدية. كلهم مروا من هنا، وكلهم اندحروا .. كل الفاتحين انطلقوا من هنا، وعادوا منتصرين .. كل الجبابرة ذلّوا على أبوابك .. وظل ترابك طُهراً لمن يطلب الطهارة، ونشيداً للشعراء، وأغنية على فم الزمان .. عِشت حراً، فابق حرا يا وطن... 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد