ليست المكيافللية بما عُرف عنها من الصيت السيئ الذي ارتبط بجمود فهم تفسيرمقولة الغاية تبرر الوسيلة ووصم هذه العملية بالعملية الانتهازية, فقد وصف مكيافيللي سلوك البشر في عصره وارتسمت أمامه صورالعصورالسالفة التي جعلت من عبارته تلك وصف حال وليس دعوة امتهان بربط الغاية بالوسيلة كأسلوب أكثر نجاعة وأيسر سبيلا إلى تحقيق الهدف . ولم يثبت في الممارسة السياسة بشكل خاص, وفي دعوات العقائد الشمولية والأيدولوجيا الكليانية التوجه نحو أهداف عامة تحققها مجموعات خاصة أو متخصصة في العمل السياسي بشكل عام إن هناك طرقا أو أساليب أو شعارات تتناقض في معانيها أو في مضامينها أو في تفاسيرها مع مقولة الغاية تبرر الوسيلة.فهي لازمة في المناورات السياسية , وفي التكتيكات الحربية وفي المداولات الحزبية لتعيين القادة واختيار الزعماء منهم وفي الدعايات الانتخابية وفي كثر من العلاقات الاجتماعية التي تسود علاقات الناس بعضهم ببعض.أوليس فيما نلحظه من ظاهرة بارزة في العلاقات الاجتماعية التي تتلخص في: كثرة الأصدقاء والمحبين والموالين لرجل متنفذ كيف تتبخر بمجرد فقد الرجل للسلطة دليل معبرعن سلوك بشري عام يقارب طبيعة الإنسان البشرية في رؤيته لتحقيق مصالحه.
هم الأنبياء, والأنقياء, والأتقياء, والحكماء, والقديسون, والورعون الذين تبرؤا في دعواتهم وفي فعالياتهم وفي أنشطتهم من ربط الغايات بالوسائل كما يفعل السياسيون والغوغائيون والحزبيون والمرشحون لانتخابات المؤدلجة أهدافهم نحو السلطة والوصول إلى مراكز الحكم والإدارة في أحزابهم مؤسساتهم جمعياتهم نقاباتهم ...
القابض على السلطة يريد الاحتفاظ بها دون إزعاج المعارضين أو المعترضين أوقيود الحدود الزمنية التي تفرضها الممارسة الديمقراطية الشكلية منها والحقيقية لسلطته,والساعي إليها يريد الوصول لها باللحظة,أي الآن إن أمكن بفقدان الصبرعلى انتظار الوصول لها يؤجج الانتقادات لكل ما يصدر عن السلطة من قرارات أو مواقف سياسية أو اجراءات اقتصادية وهذه الإرادة التي تعبر عنها القوى القابضة على السلطة والقوى الساعية إليها إرادة خاصة بالفئة الحزب الجماعة الائتلاف ... لا علاقة لها البتة بالإرادة العامة التي يطيل القابضون على السلطة من جهة , والساعون إليها من جهتهم ,ألسنتهم بالتغني بها وترديدها المتكرر بمناسبة وبدون مناسبة,حتى تصديقها والاعتقاد بصوابها.بل وأكثر من ذلك إذ يولد وهم امتلاك السلطة وما تحققه من مكاسب فردية شخصية وتنظيمية حزبية عند وهم اعتبارالسلطة حقا مكتسبا وواجبا مقدسا بالمسؤلية عن السلطة والاحتفاظ بها,أو الوصول لها.هذا على الرغم من إن المعنى الأولي والبدهي للمسؤولية و كل معانيها التي أدخلتها المصالح الفئوية عنوة وتفردا, هي واجب من الواجبات المركزية في قائمة الواجبات التي تعارفت عليها المجتمعات المتمدنة , وليست حقا من الحقوق المتعارف عليها في الأدبيات الإنسانية. ولهذا تقع الحكومات على هذه الشاكلة في مأزق حقيقي يطيح بقيمها العقائدية ويكشف النوايا الحقيقية للتمسك بالسلطة بأي وسيلة كانت كهدف لا يعلو عليه ولا يصطف أمامه أي هدف آخر ,بالقوة ,بالخداع,بالمراوغة, بالشعارات ببعضها أو بكلها مجتمعة لا فرق,ولا يهم الثمن الذ يدفع مقابل ذلك.
يتعمق المأزق الذي تزج فيه أطماع السلطة الطامعين بها, ليدفع السياسيين إلى البحث عن الوسيلة التي تضمن لهم تحقق الرغبة والهدف الأسمى في الاحتفاظ بالسلطة,والحفاظ على وضعها القائم بشكل دائم. ولا يختلف الساعون إلى السلطة في مشاريعهم السياسية وبرامجهم الدعائية وأساليبهم العملية من اللجوء إلى نفس المصدر التعليمي والإيحائي للعلاقة بين الهدف وبين الوسيلة.فإذا كانت الغاية تبررالوسيلة تأخذ في حالات صيغة تتسم بكونها شعارا محقا وقانونيا في مفردات السياسة التفردية والشمولية,فإن الفكرة تبررالموقف تتجاوز كونها شعارا محقا إلى أن تصبح سندا قانونيا تدعمه فكرة مستحقة وهي إن فكرة السلطة وما تجلبه من منافع ومكاسب على مختلف الصعد تبررالموقف منها ومن قضايا إدارة الشأن العام ورعاية الصالح العام,أي من التمتع بمزاياها والتفرد بقيادتها من خلال الأيدولوجيا والقوة الرادعة لمن يعارضها أو يعترض عليها وعلى أساليبها في إدارة الشأن العام على هواها, وليس بالضرورة أن يعبر الموقف عن سياسة سبق تبنيها أو وعودا سبق قطعها أو مبادئ تعمل الأحزاب في ضوء طروحاتها أو عقائد تسعى إلى تثبيت ركائزها بقيمها الأخلاقية والإنسانية وإنما مواقف ترضي القوي (الداخلي أو الخارجي) وترهب الضعيف,ويمكن التنصل من أثارها والاستعداد للجوء إلى نقيضها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
التبرير في حد ذاته,توصيف للعجزأو التخاذل عن قول الحقيقة ومواجهة نتائجها ووصفها كما هي دلالاتها وليس كما تخدم أغراضا خاصة.وهو هروب إلى الأمام لا تنفع معه سرعة العدْو أو القفزولا تفيد معه في التهرب من المسؤولية بشقيها الأدبي والأخلاقي.وهو السبب المباشر في هدم الثقة بين المواطن وبين السلطة إذ يتعذرعلى المواطن أن يثق بسلطة لا تثق بمواقفها ولا تراعي من المصالح سوى مصالحها.
المأزق الحقيقي الذي تواجهه حكومات الحراكات العربية في مصر وتونس التي تمكنت التيارات الإسلامية فيهما من السلطة,يتسبب في حرج كبيرللقادة السياسيين منهم وللقادة الحزبيين كذلك خاصة عند جماعة الإخوان المسلمين.إذ عدا عن الموقف المؤيد ظاهريا للفكرة الديمقراطية كونها طريق مرحلي إلى السلطة ومن ثم فلتعد هذه الفكرة إلى أصحابها,فهي فكرة غربية (هي ليست كذلك ,أنظر كتابنا ؛الديمقراطية , الحرية , التعددية ) معادية لنا ولتراثنا ولعقائدنا,هناك ما يمكن وصفه بـ تناقض المداخلات والمواقفبين شخص الحاكم وبين شخص المرشد العام ( المراقب العام في تونس وغيرها),أو بتعبير أكثردقة بين قيادة التنظيم الإخواني والحزبي وكوادره المتنفذة, وبين رئيس السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية في مصر, ورئيس الوزراء في تونس) وهو ما نشهده باستمرار حيال المواقف من القضايا الداخلية وتلك التي تمرالمنطقة بها. فالحزبيون يتحدثون عن سياسات الدولة, والناطقون الرسميون أيضا وبين هؤلاء وأولئك يجد المواطن نفسه في حالة من الارتباك الذي تنعكس آثاره السلبية على احترام السيادة الحزبية وسيادة السلطة ورئيسها التنفيذي,حتى وإن اتفقت التصريحات ومواقف الحزب أو السلطة منها في كثيرمن أجزائها, فيجد التنظيم في ما لا يرضى الناس عنه مهربا بادعاء مش إحنا تنصلا ساذجا من المسؤولية ,مما يزيد من تعقيد حالة الارتباك والتمويه والتهرب من تحمل أخطاء من الواجب الأخلاقي الاعتراف بها وليس التنكر لها ونكرانها.
في مفردات حكم الحزب الطبيعية والعملية هي أن يتولى السلطة التنفيذية رئيس الحزب,فتكون هذه الصيغة أقرب إلى الحالة الطبيعية في الحكم الذي يبحث عن الرشد, لمعرفة الرأي المتفق عليه والموقف المجمع الحزب عليه في قضايا الناس ومصالحهم وليس رئيس السلطة التنفيذية بصفته الشخصية, وهي الحالة القائمة في دول منظومات الحكم الصالح والحاكمية المسؤولة.
في ازدواجية السلطة بين رئيس الحزب ورئيس السلطة التنفيذية,فقدان ثقة متبادل بين قادة الحزب وبين سياساته, وهدر لسمعة الرئيس وكفاءته, وتضارب بين مكونات هوية الأيدولوجيا الحزبية وأطرها مع أدوات السياسة ووسائلها التي لا تصلح معها صرف هوية لها ,إذ ليس للسياسة هوية , ولكن لكل عقيدة حزبية هوية. وفي هذه الحالة,تصبح النوايا هي القاموس المرجعي لنظام الحكم أصلا من أصول الحكم ومرجعياته فيزداد المأزق تعمقا,وتزداد الهوة سحقا بين السياسية وبين العقيدة, والثمن يدفعه الوطن, من جيب ومن فكر ومن أعصاب كل مواطن واستقراره.