سلطة الفكر في فكر السلطة

mainThumb

05-03-2013 11:56 AM

ادعى بني البشرإن الإنسان كائن مفكر وبهذا يكون الفكر ميزة من أبرزميزات الإنسان على غيره من المخلوقات (التفكير ميزة الكائنات الحية!).ولكن القدرة على التفكير تلك لم تضع معايير لنوع التفكيرأو موضوعه أو نتائجه أو دوافعه أو صوابه أو خطئه, ولا تتقيد مفرداته بمفاعيل قواعد اللغة وآدابها أو مراعاة الذوق العام والقبول الطوعي ,أو فيما إذا كان فكرا صائبا أو خائبا,أوفيما إذا كان   فكرا منتجا نفعا وفوائد ومكاسب أو متسببا في الضرروالمصائب والكوارث التي يكون البشر في    النهاية ضحاياه.

 

وللمقاربة مع عنوان الموضوع المتعلق بالعلاقة بين السلطة وبين الفكر,فسنقصرمتن الموضوع عن الفكر السياسي وعن الفكر الذي صنع الأيدولوجيا أو انبثق عنها ليعلل فرضياتها ويفسرمراميها ويبرر مغتاظا ومنفعلا في أحيان عيبها في الممارسة العملية بين مرحلتين: 

 

المرحلة الأولى : بناء تنظيمات حزبية وتيارات سياسية وجماعات مسيسة تتبنى العقائد الأيدولوجية وتعمل(تناضل في المفردات التنظيمية) على نشرها لدى عامة الشعب وتجنيد الأعضاء والأنصار والمؤيدين والأصدقاء والمتحمسين المؤيدين والمقتنعين بطروحاتها لمقاومة السلطة الحاكمة تحت  عناوين إصلاحية وشعارات شعبوية وخطب حماسية وندوات تحريضية وبرامج دعائية وصحف ترويجية تجعل من الخصم كتلة مصمتة من العيوب وتجسد منه شكلا مشوها وترميه بكل الصفات التي تدعيها لنفسها مع علمها بأن الكمال في السلوك البشري ضرب من المستحيل ولكنها تبرر في منطقه أخطاءها وتشوه بنفس المنطق معارضيها وخصومها ومنافسيها.وهي تعلم بالتجربة الشخصية والتجربة الذاتية بأن الالتزام بصرامة النصوص العقائدية ومثلها حكاية خيالية ولكنها تبرر لنفسها سؤ الفهم لمن منها أساء وخرج على النصوص ,وتلصق العيب في الذات البشرية بالقول المشكلة في العقائديين وليست في العقائد,متجاهلة ما للتقد الذاتي للفكر وللمبادئ من إضفاء حيوية على انتشاره ورفع نسب القبول به.

 

المرحلة التالية : العمل بالسر وبالعلن للوصول إلى السلطة وذلك بوسائل عديدة كالانقلابات العسكرية,والثورات الشعبية السلمية والعنيفة, والكفاح الشعبي المسلح,ومنها بالانتخابات النيابية ثم التمسك بالسلطة لاعتقاد مثل تلك القوى إن السلطة وسيلة مثلى لنشرأيدولوجياتها والفرصة الوحيدة لتطبيق نظرياتها والمجال الذي عزبديله لإثبات مصداقيتها وقيادة المجتمع في مسارات الترقي والتقدم ضمن قيود المعادلات الاقتصادية والقيم الاجتماعية التي تتبناها وترى فيها الحل الوحية والطريق الوحيد والوسيلة الوحيدة لسعادة الناس وتحقيق أمانيهم والتعبير عن إرادتهم.

 

المرحلة بعد ذلك : عندما تصل القوى المؤدلجة إلى السلطة يتركز جهدها على التمكن من تثبيت سلطتها بكل السبل المتاحة.وذلك يتطلب إشغال المراكز الرسمية الهامة والتي تعرف بالسيادية,ثم تفتح ابواب الوظائف العامة الحكومية والنقابية لأعضاء الحزب ومؤيديه ومناصريه وتستحوذ تلك الكوادر على عمليات اتخاذ القرارات المنسجمة مع مصالح ترسيخ أقدامها في السلطة,وتأمين أدوات تدخلها في عمليات الترشح والتصويت في الانتخابات التشريعية وغيرها من المؤسسات العامة ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية والجمعيات الخيرية والحقوقية وغيرها,والحفاظ على مواقعها ويصبح الشغل الشاغل للقيادات التنافس على المراكز وتبدأ مرحلة تصفيات الكوادر في اتجاهين؛ في الأول منهما تتخلص السلطة المهيمنة من القيادات على الكوادر القديمة ,أي الكوادرالتي كانت تشغل الوظائف العامة والمراكز النقابية وقيادات المجتمع المدني قبل وصولهم إلى الحكم؛وفي الاتجاه الثاني تظهر تصفيات في الكوادر القيادية في الحزب نفسه طمعا في التخلص من منافسة ليس على قيم عقائدية أو نكوص في تطبيق التعليمات الأيدولوجية أو مخالفة نصوص نظرية في دفاتر الأيدولوجيا ومرجعياتها,,وإنما طمعا في منصب أو مركز قيادي ذي شأن في صنع القرارات وفي اتخاذها.وفي هذه المرحلة تولد بيئة ملائمة للنشاط الانتهازي وتتوسع دائرة المنافقين والمنتفعين والمتكسبين.

 

تأخذ السلطة من القيادات المهيمنة هموم العقائد وفكرها والأيدولوجيا ونظرياتها وتشغلهم بهموم السلطة ومؤسساتها الأمنية وأدواتها الشرطية والعسكرية في مواجهة القوى الأخرى المعارضة والمعاندة والمعترضة ومراقبة سلوك الأعضاء من الإخوة والرفاق.

 

لاتلتقي القيم الفكرية وقيم الطروحات الأيدولوجية والتزام الأحزاب المنادية بها والعاملة على تطبيق مفاهيمها ومنطلقاتها المبرمجة للعقائد على واقعها الاجتماعي والاقتصادي مع قيم العمل السياسي ومع أسس الممارسة السياسية التي يتولى الحزب ( القوى المسيسية) الحكم ,خاصة عندما تستفرد تلك القوى في السلطة وتحتكم إلى معاييرها الخاصة بها بمبادئها في إدارة شؤون المجتمع وقضاياه,متجاهلة  الطبيعة البنوية شديدة الوضوح للمجتمع وقواه المتعددة والمتنوعة.

 

في الأيدولوجيا قيم من المفروض إنها تتقمص الدعوة لخيرالإنسان الفرد وخيرمجتمعه,ولكن ذلك يتم بنظرة شمولية,وبرؤية لا تميز بين الشمولية من وجهة النظرالفئوية وبين وجهات نظرالفئات الأخرى المكونة للمجتمع وموقف هذه الفئات من تلك الأيدولوجيا.ولكن في السياسة واقع مختلف ليس فقط في الأساليب والممارسات وإنما في تخطي العديد من المفاهيم العقائدية وتجاوزعناصر مركزية من عناصرالنظريات المرتبطة بها.

 

الأيدولوجيا تدفعها قوة واحدة تقف خلفها وترى في فرضها على الآخرين واجبا وطنيا مقدسا,وهي تضع حدودا فاصلة للمشاركة الجماعية,وتفضل التوحد في إدارة السلطة,وتتوهم أن حل الخلافات في الغرف المغلقة فضيلة عامة على الرغم من كونها وسيلة ضنينة في نتائجها على مبدأ الشفافية الذي يعزز من الثقة بين الأطراف المختلفة,وهذا الأسلوب يقود عادة إلى تفشي حالات الفساد السياسي والإداري. وتفضل الأيدولوجيا الشمولية تركيز السلطة والتحكم في كل مفاصلها وفي العديد من تفاصيلها.فقدوجدت هذه النظم حاجة إلى حماة للنظام من المدنيين!!,وإلى حماة أخلاق عامة ومراقبة سلوك المواطنين!!,وتصبح عمليات الاغتيال للمعارضين والمعاندين والمختلفين الوسيلة  الممكنة للتخلص    مما تعتبره معيقات أمام طغيانها!!.

 

أما السياسة فترتهن لقوى عديدة فئوية ومحلية ودولية تؤثر بدرجات مختلفة على مسلك الحكومات المحلية وعلى خياراتها وعلى اختيارات المناهج التي لا تربطها  بالضرورة بالعقائد والأيدولوجياالمدعاة وإنما تتعلق بدروب السياسة ومفاعيلها وألاعيبها ومهارات الخداع والمناورة التي تتولى أداءها قوى لها خبرتها الطويلة وتجاربها المريرة مع السياسة وفي  دهاليزها ومخابئها ومفاجآتها.

 

إذا كان الفكر المؤدلج على المسالك الشمولية بحاجة ماسة إلى القهر والحماة والحراس من المؤدلجين للنظام السياسي ,تقع السلطة تحت تأثير الفكر التسلطي.والفكر في جوهره مساحات واسعة أمام العقل وأمام التجربة في تعددها وفي تنوعها الذي لا حدود تحد من انتشاره ولا قيود تقيد انطلاقه ولاجدران تحول دون انتقاله.والفكر في جوهره وفي أسس بنيانه ليس سلطة,ولايملك أي معيار من معاييرالسلطوية أو التسلط ما لم تمول مفرداته  صياغات المبادئ  الشمولية المقترنة برغبات سلطوية لا يمكن لها أن تخفي أحقادا شخصية أو تراثية أو تاريخية.

 

الفكر إما أن يكون نابعا من مرجعيات سلطوية أبوية النشائد والشعارات كما في المبادئ الشمولية أو  فكرا حرا بلا توصيف يضفي عليه سمات خاصة بفئة أو جماعة,ويكون فكرا بلا حدود وبلا حواجزوبلا نهايات. الفكرفي أصوله تجاوب مرن مع رؤى تختلف من بيئة إلى أخرى وتختلف من رؤية إلى رؤية وتملك قابلية شديدة الحساسية للتغيرات والتقلبات التي تطرأ هنا وهناك في مجالات الحياة وهوايات الأفراد واهتماماتهم دون حسابات مرهونة لقيود العنصرية والتعصب لعرق أو دين أو مبدأ أوميدان, ولكنها تظل تحوم في مجموعة أفلاك القضايا الإنسانية والتجربة الإنسانية تحت مختلف الظروف في مختلف الأمكنة باختلاف الأزمنة والموضوعات وتعدد التجارب وتحليل نتائجها واستخلاص العبرمنها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد