شكوى إلى الله

mainThumb

15-02-2014 01:50 PM

لقد اسودت الدنيا في عيني  وأنا أطلب فيزا من السفارة الإسرائيلية  في عمان هذه الدولة التي احتلت وطني ومدينتي وقريتي وبيتي  أتقدم بطلب إليها من أجل منحي تأشيرة تسمح لي بموجبها  زيارة بيتي الذي ولدت فيه  وزيارة عائلتي !!!!

يا أخواني أنا فلسطيني أردني شئتم أم أبيتم وأنتم أيها القادة العرب وفي مقدمتكم رئيس السلطة الفلسطينية  كيف تسمحون لأنفسكم أن تقوم السفارة الإسرائيلية  المحتلة بمنعي من زيارة أخي  المريض وهو يعاني سكرات الموت ... تمنعني من العودة إلى  أهلي وعائلتي وتمنعني من زيارة  وطني وزيارة نابلس مدينة آبائي وأجدادي ؟؟؟

أنا رجل قد تجاوزت السبعين من عمري ولدت في مدينة نابلس كان والدي رجل علم ودين  وتقوى أمضى حياته في تدريس ونشر تعاليم وقيم الدين . الدين الإسلامي الحنيف القائم على الفضيلة والتسامح والإخاء . الدين  الإسلامي الوسطي البعيد عن التطرف والمغالاة .


كان رحمه الله كتلة من الخلق وقمة في التواضع وكان صلبا أبيا جريئا في الحق . توفي الشيخ الجليل العلامة عام 1961 وهو في السابعة والثمانين من عمره مخلفا وراءة ثمانية أطفال ستة أبناء وابنتين .
كنت الإبن الأكبر كانت لي طموحات كبيرة لا سيما وأنني قد حصلت على شهادة (المترك) التي تؤهلني للإلتحاق بجامعة الأزهر في القاهرة . ولكن الضائقة المالية بعد وفاة والدي ومسؤولية عائلتي قد أجبرتني كي أبحث عن عمل في بقاع الأرض التي رحبت بما ملكت ولم تضق بما وسعت ووصلت الكويت عام 1962 لأعمل في دار للطباعة والنشر ولقد أعجبتني تلك الموسيقى الخلاقة وأنا أرقب تلك المطبعة التي  لا تهدأ ولا تكل ليلا أو نهار .
 واصبحت وأنا في مقتبل العمر مشرفا فنيا متخصصا في المطبعة .  وانتقلت إلى دبي للإشراف على تركيب مطبعة حديثة في ذلك الوقت ومن ثم انتقلت عام 1965 إلى مدينة جدة التي احتضنت كل آمالي وتوقعاتي رغم الحرارة المرتفعة والرطوبة العالية لم يكن في ذلك الوقت  أجهزة تبريد مركزي بل كنا  نستخدم  أجهزة التبريد المغطاة بالقش ونعمل على رش الماء على القش وتقوم المراوح بتوجيه الهواء عبر القش يحمل نسمة حلوة رطبة كانت الحياة بسيطة طيبة كنت ألتقي خلالها  بالكثير من الأهل والأصدقاء من نابلس في مواسم العمرة والحج .

وقامت حرب حزيران 1967 وفوجئتُ كما فوجىء كل العالم العربي والإٍسلامي بالنتيجة المؤلمة والتي فقدنا نتيجتها الضفة الغربية وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان  ولقد حملتُ نفسي أنا ومجموعة من زملائي في فزعة عاطفية ظننتُ في تلك اللحظات أنني أستطيع العودة إلى نابلس ولكن الأمور كانت أقسى  وأعقد مما ظننت  فلم أتمكن من عبور الجسر وأمضيت أكثر من شهرين وأنا أتابع أخبار عائلتي والإطمئنان عليهم وعلى أخبارهم وعدت إلى جدة من جديد  وأنا مصمم على زيادة ساعات عملي  من أجل تمكين أخواني  متابعة دراستهم الجامعية هذا الحلم الذي حرمتني منه الأقدار ومضت الأيام سراعا وأنا أعمل في جدة عاما بعد عام  أعود في إجازاتي المحدودة إلى عمان ألتقي خلالها بأخواني وأقربائي في إجازة الصيف .

وقدر لي الله بأن أتزوج  من سيدة فاضلة  من مواليد يافا  كان يعمل والدها مديرا لمدرسة قبل أن يتم تهجيرهم إلى طرابلس في لبنان  ولقد رزقنا الله بعائلة صغيرة مكونة من ابنين وإبنة  ملأوا حياتنا  دفئا وحنانا وأعطونا أكثر من دافع وسبب للنجاح في مسيرة الحياة  بشرف وكرامة .

طوال تلك السنوات عشت كل عمري وأنا أحلم ببيت الوالد في نابلس الذي قضيت فيه شبابي وأذكر فيه كلمات الوالد الشيخ التقي الورع وهو يحدثني عن فلسطين وقدس وطهر أرض فلسطين  والظلم الذي لحق بشعب فلسطين  كان يتحدث عن نكبة عام 1948 .

كان يوم الجمعة يوما مقدسا بالنسبة إليه وكان ينتظر صلاة الجمعة بفارغ الصبر وفي أحيان كثيرة كان يسهر ليلة الخميس وكنتُ أصحو من نومي وأنا أجد المراجع والكتب تحيط بوالدي كان لا يدع أي مجال للصدفة وكان يبحث عن الفكر في  القرآن الكريم وفي  كتب الحديث وفي أعماق المراجع لكبار العلماء . فكل حرف مهم وكل كلمة يختارها لينطق بها من فوق المنبر مسؤولية يقف بها بين يدي الله سبحانه وتعالى .

كانت أسعد لحظات حياته تلك اللحظات التي يصعد فيها المنبر كي يلقي خطبة الجمعة وهو رضي النفس قانع الوجدان والضمير وكنا أنا وأخواني نرقبه ونستمع لكلماته ونرقب نظرات المصلين وهم يتابعونه بأنظارهم وبقلوبهم .

وما أن تنتهي صلاة الجمعة حتى نتبعه على الأرجل إلى المنزل لنتناول أكلته المفضلة وهي أكلة المسخن يتبعها بإستكانة الشاي بالنعناع ومن ثم تأتيه الوالدة ببعض الملبن قبل أن يقوم بنفسه بإعداد صدر الكنافة النابلسية أمام أعيننا وكأنه يريد منا أن نتعلم كيف نصنع الكنافة في البيت .   
 
لقد انقضت السنوات سراعا وأنا بين جنبات المطابع المختلفة أراقب التطور في التكنولوجيا والتطور في الطباعة فمن ابيض وأسود إلى الأوفست الملون ومن مئات الصفحات المطبوعة إلى مئات الآلاف . وتطورت جدة وتطورت صناعة المطابع معها  وفي غفلة من الزمن أنهى أبنائي دراستهم الجامعية ووجدت نفسي وقد بلغت السن القانوني  للتقاعد وقد آن الأوان لأرتاح . ولكن صاحب المطبعة قال لي يا أخي لقد أمضينا السنين بحلوها ومرها وإنني والله أأتي إلى العمل كي أجلس معك وكي أتحدث إليك وإذا تركتني فسوف أترك العمل وأبيع المطبعة ومرت السنوات  وتوفي صاحبي رحمه الله ووجدت أنني فعلا بحاجة إلى  الإستراحة والعودة إلى عمان .

وقبل شهر تلقيتُ مكالمة هاتفية  من أخي  في نابلس يعلمني فيها أن أحد أخواني مريض وفي حالة خطرة وقد تم نقله إلى مستشفى هداسه في القدس حيث انتشر السرطان في معظم أجزاء جسده وهو يتمنى أن يودعني  قبل أن يموت .

لقد ظننتُ أنني أستطيع التوجه إلى الجسر والقيام بزيارة مدينتي الحبيبة نابلس  ولكنني بحاجة إلى فيزا من السفارة الإسرائيلية في عمان  وأنه لا يمكنني التوجه مباشرة إلى السفارة الإسرائيلية وإنما يتوجب علي أن أتقدم من خلال مكتب سياحي  للقيام  بتعبئة النموذج المطلوب بواسطة الإنترنت  وبالفعل قام المكتب السياحي بتعبئة النموذج الخاص بالحصول على الفيزا وتم تحديد موعد للمقابلة وقمت بالتوجة إلى السفارة الإسرائيلية في عمان وتم تفتيشي من قبل رجال الأمن وشعرت بنوع من الإختناق وأنا أتعرض إلى سلسلة غريبة من الأسئلة التي تم توجيهها لي هل أنا عضو في منظمة التحرير أو الجبهة الشعبية أو حركة حماس أو .. أو ... وهل سبق لي أن قمت بأي عملية إرهابية  ولكن الأغرب من هذا كله أنهم سألوني إذا كنت أعرف اسم والدة جدي ( سيدي )  وكدت أفقد أعصابي عدة مرات ولكنني كنتُ أستذكر  بسمات والدي وهو من فوق المنبر وأستلهم الصبر من ذكراه ثم أعود لأتذكر وجه أخي الراقد على فراش الموت والراغب في مشاهدتي قبل الوداع الأخير . وظننت أنني إذا أخبرتهم  أنني حاصل على فيزا من الولايات المتحدة لخمس سنوات وأنني قمت بزيارة الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية وحاصل على العديد من الفيز من السفارات الأوروبية  ومعظم هذه الفيز صالحة لسنوات أنهم سيوافقون على منحي الفيزا المطلوبة
وبعد استعراض لمسيرة حياتي ولحياة عائلتي ولا أريد أن استخدم كلمة استجواب . طلبوا مني إبقاء جواز سفري وأن أعمل على مراجعتهم بعد أيام
وبالفعل بعد عشرة أيام قمتُ بمراجعة السفارة الإسرائيلية كي أستلم جواز سفري ولقد فوجئتُ وأنا أستلم جواز السفر وقد تم الختم عليه باللغة الإنجليزية  ( REJECTED ) أي مرفوض .

لقد اسودت الدنيا في عيني فأنا أطلب فيزا من السفارة الإسرائيلية في عمان  هذه الدولة التي احتلت وطني ومدينتي وقريتي وبيتي  أتقدم بطلب إليها من أجل منحي تأشيرة تسمح لي بموجبها  زيارة بيتي الذي ولدت فيه  وزيارة عائلتي  وزيارة  نابلس مدينة آبائي وأجدادي .

والآن يحاول أخواني أن يحصلوا لي من خلال مكتب الإرتباط الفلسطيني الإسرائيلي الحصول على تصريح للزيارة تحت بند الحالات الإنسانية  وتارة يقول لهم  مندوب السلطة الفلسطينية أن هناك 130 تصريح سنويا فقط تحت بند الحالات الإنسانية وأن هذه التصاريح قد تم استنفاذها منذ الأسبوعين الأولين من بداية العام وفي محادثة ثانية مع مسؤول فلسطيني آخر أخبرهم أنه قد تم إلغاء مثل هذه التصاريح وأن علي مراجعة السفارة الإسرائيلية في عمان  حتى أهلي يكذبون .

لقد تبقى لي أمل واحد أن أقوم بمراجعة وزارة الخارجية الأردنية وشؤون المغتربين فقد أقنعهم أن يكتبوا لي كتابا للسفارة الإسرائيلية من أجل  الحصول على فيزا لحالة إنسانية أزور فيها مدينتي وأزور فيها أخي قبل أن يستودعه الله في رحاب جناته .

هذه قصتي يا أخواني أنا فلسطيني أردني شئتم أم أبيتم وأنتم أيها القادة العرب وفي مقدمتكم رئيس السلطة الفلسطينية كيف تسمحون لأنفسكم أن تقوم السفارة  الإسرائيلية المحتلة بمنعي من زيارة أخي المريض وهو يعاني سكرات الموت . تمنعني  سفارة المحتل لأرضي من العودة إلى وطني إلى أهلي إلى عائلتي .

إن أقسى درجات الإرهاب هو الإحتلال العسكري وإن الإحتلال العسكري الإسرائيلي هو أطول إحتلال عسكري في التاريخ 
اليوم أسترجع في ذاكرتي كل الفلسطينيين في كل المخيمات في كل البقاع العربية إن وجودهم خارج  وطنهم  وخارج أرضهم  يشكل وصمة عار ليس في جبين إسرائيل فهي عدوتنا وإنما في وجه كل الأنظمة العربية التي أبقتهم رهائن غرباء بلا هوية خلف الأسلاك الشائكة  مجرد غرباء أعداد رقمية  يحملون بطاقات  لا يعترف بها حتى من أصدرها  .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد