جدتي إزهيا النابلسي

mainThumb

17-12-2014 09:35 PM

جدتي لأمي، الحجة إزهيا الصالح النابلسي، من عشيرة بدوية من قبائل بني صخر، نسبها "النابلسي" يعود لبلدة عرابة في محافظة نابلس، شقيقها الشيخ ابراهيم النابلسي -كان يتنقل من عرابة للجولان الى دير يوسف الى بيت راس شمال اربد المدينة - ومعه ربعه وانسبائه واصهاره ومواشيه، بحثا عن الماء والكلاء، وجيرة الأجاويد. خطبها جدي إمليحان وهي في مضارب اهلها وكنف شقيقها، في الجولان، وانتقل بعد الزواج بها لتعيش حياتها مع الفلاحين والفلاحات في قرية بيت راس القرية الرومانية الجبلية المحاذية لاربد من الشمال.

التحق بها شقيقها الشيخ وربعه ليسكنوا في المداحل وهي ارض منحدرة تقع الى الغرب من البلدة العتيقة بيت راس. كان لجدتي منوحتها، الخاصة بها، وهي شلية تتكون من عدد محدود من الاغنام، تسرح وترعى مع اغنام اخيها التي تعد بالمئات، يذهب بها الرعاة، ويسرحوا فيها في السهول والمراعي باطراف وجوانب القرية الاربعة في الصباح الباكر، كما يعودون في المساء، في مشهد رتيب جميل، يملاء فيها الشوارع والازقة الترابية من القرية الوادعة حياة وحضور، بينما اجراس الاغنام وحفيفها مع بعضها والسناسل واصوات الرعاة، تتناغم مع بعضها، لتعزف الحانا وسينفونيات خالدات في الذكرى وفي الذاكرة، يعز - في هذه الايام- نظيرها ! بقيت جدتي وفية لبدويتها، وعلى تواصل مع اهلها في حلهم وترحالهم، ومع شقيقاتها وذراريهم في سما السرحان ومغير السرحان والباعج، والزعتري، لتزورهم في الصيف، وتجاملهم في مناسباتهم، حيث كان لمقدمها لبيوتهم عز وجاه، فيحيطون بها، ويغمرها الود، بفعل تقبيل الايادي وحميمية اللقيا، من الاجيال المتتابعة المواليد للعمة الكبيرة الحجة إزهيا. اما في محيطها القروي فكانت تعتبر من الميسورات في زمانها حيث اشترت بعض من الارضي والحواكير، من حر اموالها، وكان بيتها لا يخلو من السمن البلدي ولا الزيت والطيب والزعتر البري والبابونج والميرمية، وكانت تنام على سرير معدني، مدهون باللون الابيض الحليبي، يعلوه ديكور من اساور وتيجان وخراخيش، وفراش وغطاء دافئ وثير.

كانت جدتي تضحي بجمل في عيد الاضحى، توزعه على اهل القرية والمارة من الناس بسخاء، ولا تأكل منه، بناءا" على فتاوي بعض المشايخ ومدعين المعرفة الشرعية في تلك الحقبة ! وكانت تحج يرحمها الله على جمل مع حملة الحجيج التي يقودها الحاج صالح المسعد، وكانت تروي لي وغيري كيفية الحج وتفاصيله ومعاناته ! حيث حصل معها ان قد نفق جملها وهي على ظهره، لتسقط عنه وتشتري غيره من الصحراء، وهي في طريق ذهابها للحج، حيث كانت قد سقطت عن الجمل النافق، فجائت العواقب سليمة، من جراء السقطة، حيث كانت خسائرها الجمل، الذي نفق، وتحول احد اسنانها الامامية الى اللون الرمادي - وهو السن الفارق في مبسمها الانيق، الذي كنت اسئلها عنه دوما- وتجيب انه تحول بفعل السقطة. جدتي كانت متسامحة وعملية وصاحبة جهد في مواسم الحصاد وخاصة قلاعة العدس والكرسنة، وحصل ان تسامحت مع احد احفادها الكبار- اللغير ملتزمين بالمنطق والعرف كما ينبغي- بعد ان سرق منها ثلاثون دينار في صبيحة يوم باكر، واستأجر سيارة اجرة شفر، من كراج بور سعيد في اربد المدينة، ذهب بها لعمان وانفق جل ما سرقه منها، وغاب طوال النهار لبعد الغروب، وكانت تلوم نفسها خوفا عليه وتبكيه وتقول "انا مسامحتة بالثلاثين دينار، منشان الله، لا حدا يلومه ! انه ولد جاهل، وسأعطيه غيرها بس يرجع" وفعلا اعطته جزء من ثمن العدسات، التي تعود لمحصول حاكورتها الى الجنوب من منزل والده الشهم، صاحب الجاه والوجاهة. رحم الله جدتي "النابلسية" كما كانوا ينادونها، فقد كانت كريمة كرم البدو، وطيبة طيبة الفلاحين. فكانت منتجة فاعلة، تجوب الارض وهي تلقط الزعتر والجعدة، في شيخوختها، وتبرم وتجدل خيوط الصوف –بكل مهارة- بمغزلها الخيزراني الجميل، لتصنع لنا نحن احفادها كسوة الشتاء. وكانت تشك وتلظم قلائد القطين والباميا والدنيدلة والجعدة بخيوطها القطنية والصوفية، وتجفف الصغير الاحمر الناضج من حبات ثمار البندورة، وتنشرها على مسطحات من القماش القطني، لتعد لنا يبيس البندورة ومجففها، ومنتجات الصيف والربيع الطازجة، مخزونا إستراتيجيا لفصل الشتاء، الصعيب الذي لا يبقي من مخزونها ولا يذر !

وجدتي "الجحة النابلسية" كانت موئلا" للحنان، وسيدة معطائة متواصلة مع رغبات الجيل وطموحات النشء، حيث كانت تأخذني في طفولتي بيدها مرافقا لحضرتها عندما تزور اهلها وشقيقاتها، كما كانت تختارني في إجازات المدارس في الصيف للنوم عندها، ضيفا عليها في بيتها وكانت رحمها الله تكرمني بالنوم على سريرها الوثير، بينما كانت هي تنام على الارض وتغطيني بلحافها النيلي المعقم والجميل، مشفوعا بحنانها وطيبتها، وتطعمني البيض المقلي بالسمن البلدي ولبن الكيس والزيت والزعتر ورصيع الزيتون، ومما يتوفر لديها من طيب الطعام البلدي في خزائنها الغنية بالمخبوء من النعم. رحمها الله جدتي النابلسية رحمة واسعة وغفرلها، ورحم ذلك الجيل الذي ولد الآباء والامهات، وأورث لنا الارض، وانتج وبنى وزرع، وخلف لنا ارض مزروعة بالحب والعواطف والامل، قبل ان تأتي هذه الايام المملوءة بالضنك والإنتقاص من كرامتنا المكتسبة، في بلادنا وفي:-
"بلاد العرب اوطاني من الشام لبغدان .... ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان".

ولكم طيب المنى وشتاء" رحيما متنزلا" بالبركة والرحمة والمغفرة.
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد