الاغتراب الجسدي ... لايواكبه بالتأكيد اغتراب ذهني بالمشاعر والصور والذكريات الجميلة ولا يسمح حنى ذهن ذاك الفتى الأردني البسيط لكل الصور الدخيلة الغازية التي يراها في الرحيل نحو العالم البعيد ان تتغول عليه او ان تقدم نفسها كبديل .. بل ان تلك الصور الزاخرة بالحنين والامنيات والجذور المتينة داخل رأسه تعاند وترفض كل الفرص والمحاولات التي من الممكن ان تمحوها من الذاكرة العميقة الخصبة التي اقسمت مليون مرة ان لاترحل ..
ورغم مرور السنين التي نهبت كل شيء وعملت على غسل كل الامنيات والذكريات الجميلة الحلوة بغسالة الزمن المهرول نحو البعد إلا انها مازالت صورة جدة هذا الفتى العتومية وهي تزرع اشتال البندورة في جوار البيت الطيني القديم في جرش والذي عاش فيه معها اثناء دراسته الابتدائية هناك حيث كان أحيانا كثيره يركب الحلم كل ليلة ويرتحل حول العالم الوسيع ليستيقظ في الصباح على صوتها وهي تقول ... قوم يا جدّه ... قوم تقوم قيامتك الساعة صارت الظهر وانته بعدك نايم رغم ان الساعة لم تتجاوز بعد السادسة صباحا ليذهب بعدها مباشرة وقبل ان يأتي موعد المدرسة الى الآثار ليحضر لها بعض القحوف من هناك لتطحنه وتصنع منه الخوابي (جرّة الماء ) وتبيعها للناس ... مازالت صورة بيوت الطين والحواكير ومخبز ابوعدنان المشروح وحمص ابو العايش والصمادي وفلافل أبو محمد وأبو نضال ولبن الرايب من عند علي الجوخان وام عمره ... والشجارات المتكررة هنا وهناك التي كان يقوم بها الأطفال بعد انتهائهم من اللعب في حارة الزطايمه بالدواحيل حيث كانوا يتشاجرون على قرن الغزال وكل شكل دوحل كان له اسم .. والتزحلق على الواح الخشب وعربات الزرد .. ودفء الزقاق التي كان يعتبرها جزء من اسرته الصغيرة وباصات قرمها والمحشي وقهوة القواقزه وبكم محمود ابو العدس الفورد الأخضر وبكم الحاج رضوان الحصان الفارقو الأزرق وبكم أبو سرور الستاوت الأبيض والباترول وقلاب الحشحوش وموسى الشعبوط وأبو زريق وأبو عكّاش الكردي وأبو الرز وأبو الترك .. وبطولات نادي جرش الكبيرة . بديوي وقعوار وشوقه وأبو الروس وغيرهم ودكان ابو حامد وعطارة سبع العيش وبابور الطحين في وادي سوف وقرب المتنزه وابو فاروق الذي كان يصلح البسكليتات وتكسي زياد وبوزا الدورادو والبرّاد .. ودحدح وعطية هؤلاء المشردين الذين كانت تلوح وجوههم الطيبة في كل مكان ومحل الحلبي الصغير الذي كان ناصر عتمه يصنع فيه حلوى لذيذه وتلك الحلوى الغريبة التي كان يبيعها الرجل الغريب الذي اختفى من يومها والتي كان اسمها مجلجل وحتى حكايات الكف الأسود وأبو رجل مسلوخة والغولة .. مازالت تلك الصور الحبيبة في الذاكرة الخصبة لذاك الفتى الذي مازال .. ورغم ان تلك الأجساد ارتحلت الآن رغم انفها نحو البعيد ... ورغم كل شيء فذاك الفتى الاردني البسيط صاحب الثياب الريفية البسيطه مازال متأكدا تماما ان تلك الافئدة الصغيرة البسيطة التي تنبض داخله مازالت تتعلق بتلك البلاد الطاهرة النقية الطيبة ببداوتها وريفيتها وقرويتها وأهلها .. وخصوصا تلك الصور الراسخة الثابتة لاماكن ووجوه تأبى إلا ان تكون هي سيدة المكان والزمان في حياته الى الابد ..
في ذاك الزمن لم يكن يعني ذاك الفتى من تلك الوجوه المتكررة المتعددة سوى الانسان ... الانسان فقط دون رتوش ولم يكن يعنيه من تلك الأماكن والصور المنثورة هنا وهناك سوى طيبتها ..