نجح النظام الرسمي في الأردن بكل أجهزته في تجاوز الموجة الأولى من الربيع العربي التي اجتاحت الشارع الأردني ، ذات الاحتجاجات التي انفجرت في عواصم الربيع العربي انفجرت في عمان إلا أن النظام الأردني استطاع تخطيها بهدوء وحذر وقد ساعده في ذلك عدة عوامل أهمها قدرة النظام على امتصاص غضب الشارع من خلال طريقة التعامل الأمنية الناعمة مع الاحتجاجات والتغيير المستمر لرؤساء الحكومات لتخفيف احتقان الشارع وأخر واهم هذه العوامل استثماره للازمة السورية ومخيمات اللجوء إعلاميا في التخويف من الربيع العربي حيث استطاع تسويق فكرة الأمن كأولوية لدى الشعب على أية أولوية إصلاحية سياسية أو اقتصادية .
(1) جرعة إصلاح
قدم الأردن الرسمي حزمة من الإصلاحات السياسية على الدستور في عام 2011 بعد أن شكل لجنة مكونة من معظم القوى السياسية لتعديل الدستور والتي قاطعها التيار الإسلامي، إذ استطاعت اللجنة أن تحقق حزمة جيدة من الإصلاحات كان أبرزها حول منع مزدوجي الجنسية من تسلم المناصب القيادية العليا ( نواب ، وزراء ، الوظائف التنفيذية الأولى )، في الدولة وتم إنشاء المحكمة الدستورية للبت في دستورية القوانين التي يتم تشريعها، إلا انه تعديل بقي بعيدا عن المساس بتركيبة النظام ولم يستطيع تحويل شكل الدولة من النظام الشمولي إلى الملكية الدستورية .
على وقع هدوء الشارع الأردني بعد انحسار موجات الاحتجاجات استطاع النظام الأردني عبر البرلمان الموالي له أن يقر مجموعة من التشريعات التي تقدم خطوة بسيطة على طريق الإصلاح السياسي فكان أهم تلك التشريعات تشريع اللامركزية الأقاليم وقانون الانتخابات المحلية "البلدية " وقانون الانتخابات البرلمانية .
(2) خطوة للوراء
جاء شكل قانون الانتخابات البرلمانية الذي يرسم شكل المستقبل السياسي للدولة باهت من حيث قدرته على انجاز حياة حزبية مدنية متقدمة إذ انه اعتمد القوائم النسبية المفتوحة بشكل منفرد ولم يتضمن العتبة الانتخابية التي تخرج صغار الأحزاب والقوائم من اللعبة السياسية،إلغاء العتبة سيحرم أي حزب أو تكتل سياسي من الوصول للأغلبية التي يمكن أن يشكل من خلالها حكومة برلمانية أو حتى الوصول إلى كتلة معارضة مؤثرة للحكومة القادمة ويجعل من البرلمان القادم برلمان معلق في المفهوم السياسي مما يعني الاستمرارية في ذات النهج في تشكيل الحكومات مع جرعة مخففة من الرقابة والمشاغبة تحت القبة لا تؤثر على سياق وطريقة العمل السياسي التقليدي في الأردن .
ما قدمه الأردن الرسمي في التعديلات الدستورية عام 2011 عاد عنه بعد أن هدأت جميع ارتدادات الربيع الأردني وأعاد الحرس القديم تموضعه وامسك بمفاصل الدولة وأحكمت القبضة الأمنية يدها على الشارع من جديد .
في عجالة ودون سابق إنذار أو إعلان دفعت حكومة عبدالله النسور قبل اقل من شهر وفي أيامها الأخيرة التي تعيشها حزمة من التعديلات الدستورية إذ عدلت من النصوص وجعلت تعيين رئيس المجلس القضائي وقائد الجيش وقائد الدرك وقائد الأمن العام بيد الملك بعد أن كانت بتنسيب من مجلس الوزراء ومصادقة الملك فيما تم إلغاء المادة التي تمنع على مزدوجي الجنسية من تولي المناصب القيادية .
البعض يتفهم جمع المزيد من السلطات بيد الملك إذ يراها في سياق أن رأس النظام يستعد للذهاب للحكومة البرلمانية التي لا يعلم كيف سيكون شكلها بعد انتخابات الخريف القادم وان هذه المناصب الحساسة يجب أن تبقى محصنة ومستقرة ولا تكون بيد تجربة وليدة وخصوصا أن الأحزاب الأردنية في معظمها هي امتداد لحالات حزبية خارجية وقلما تجد حالة حزبية وطنية ، ويمكن هنا استثناء حزب المؤتمر الوطني الوليد " زمزم " صاحب الأجندة الوطنية فاقعة اللون ذو الخلفية الإسلامية والفكري المدني البحت.
فيما يرى البعض الأخر أن هذا التعديلات جاءت نتيجة طبيعة لمقدمات العهد الجديد الذي سيكون به ولي العهد الشاب الأمير حسين بن عبدالله على رأس النظام خلال سنوات قليلة وان الملك الأردني يسعى إلى تسليم الملك لابنه الشاب وتكرار التجربة القطرية وانه يريد تسليم القائد الشاب ملكية أكثر استقرار وهذا ما ذكره في مقابلاته الصحفية في الصحف الغربية " بأنه سيورث ابنه ملكية بغير الشكل الذي تورثها هو من والده الراحل " .
فريق أخر يرى أن التعديلات الدستورية التي تم إقرارها بشكل سريع جدا وخلال أيام هي خطوة للوراء على طريق الملكية الشمولية وردة بينة عن طريق الإصلاح والملكية الدستورية والتي تشرئب نفوس النخب السياسية لها كمدخل آمن ووحيد للإصلاح السياسي .
جميع النخب السياسية تجمع على أن التعديل الدستوري الأخير فيما يتعلق برفع الحظر عن مزدوجي الجنسية من تولي المناصب السيادية جاء من اجل تهيئة البيئة لتولي الدكتور باسم عوض الله رئيس الديوان الأسبق للحكومة القادمة إذ يوصف بأنه صاحب العلاقات القوية مع دول الخليج وانه الأقدر على جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى الأردن وظهر ذلك في الإعلام جليا إذ رافق العاهل الأردني في زيارته الأخيرة إلى السعودية دون أن تكون له صفة وظيفية رسمية .
باسم عوض الله اسم ثار حوله الجدل كثيرا في عام 2009 وأثيرت حوله ضجة كبيرة في الربيع العربي إذ يشار إلى انه المهندس الرئيسي في برنامج التخاصية والتحول الاقتصادي وتحويل النمط الاقتصادي للدولة إلى نمط الجباية، برنامج تحول اقتصادي خسرت بموجبه الدولة بالخصخصة معظم مؤسساتها التي كانت ترفد الخزينة بالأموال وبنفس الوقت تفاقمت مديونية الدولة لتصبح 32 مليار دولار أمريكي لهذا العام نتيجة لتلك التحولات الاقتصادية وبعد سنوات تقشف عجاف على الشعب قادها رئيس الحكومة الحالي عبدالله النسور مرحلة تقشف أحدثت تضخم اقتصادي كبير كانت نتيجته تآكل الطبقة المتوسطة لصالح تمدد الطبقات الفقيرة وظهرت شريحة الطبقة الاقتصادية المعدمة .
(3) صراع ضروس داخل أجنحة الحرس القديم
طفت في الأسابيع الأخيرة موجة من الصراع الموجه ما بين سدنة الحرس القديم والذين ورثهم النظام الأردني الحالي من العهد الملكي القديم من أيام الملك الحسين الراحل وبين الحرس القديم الذين جاءوا مع العهد الملكي الجديد وعلى رأسهم باسم عوض الله .
ظهر هذا الصراع من خلال التراشق الإعلامي غير المباشر ما بين أنصار كل فريق والذي بدورهم يحاولون التأثير على القواعد الشعبية للانخراط ودمجهم في هذا الصراع الدائرة بينهم ، فيما بدأت تظهر على السطح آثار هذا الصراع بثوب التناقض الديمغرافي الموجود في الأردن.
فيما يحاول الحرس القديم تيار العهد الملكي القديم إظهار أنفسهم بشكل غير مباشر بأنهم حراس مصالح المواطنين الشرق أردنيين السكان الأصليين للاردن، يحاول أنصار تيار الحرس القديم العهد الجديد ( الصلعان ، أو شخصيات الديجتال ) كما وصفهم رئيس الحكومة السابق الروابدة إظهار أنهم حماة مصالح المواطنين من غرب النهر .
لا شك أن هذا الصراع بدأ ينزل على القواعد الشعبية نتيجة للتناقض الديمغرافي الموجود في الأردن منذ فتنة عام 1970 المعروفة بأيلول الأسود ، فيما تبقى بعض النخب يقظة لهذا الصراع وخطورته وتنادي بتجنب استخدام الشعب وقود في تلك المعركة الشخصية بين أجنحة الحرس القديم شعب ليس له بهذا الصراع ناقة ولا جمل وان استخدام الشعب وقود في تلك المعركة يضر باللحمة الوطنية في هذا الظرف الدقيق .
(4) هل الأردن جاد في الإصلاح السياسي ؟
من يمسك االسلطة في الأردن حاليا ويتحكم في مفاصل الدولة هم رجال الحرس القديم بشقيهم العهد القديم والعهد الجديد وجميع هذه التيارات مؤمنة بان الحالة السياسية التي يعيشها الأردن هي الحالة الأمثل للحياة السياسية الأردنية وان الأردن تحل مشاكله بالتخلص من الحالة الاقتصادية التي يعيش ، وان الإصلاح السياسي يمكن أن يعقد الحياة الاقتصادية خاصة في مراحل العبور السياسي والمراحل الانتقالية وهذا ما لا يتحمله الأردن حاليا .
من واقع رصد أطروحات أصحاب القرار حول الإصلاح السياسي فان الأردن ذاهب بلا شك إلى جرعات مخففة جدا من الإصلاح السياسي ولسوف يعتمد في عشريته القادمة على محاولة إصلاحات اقتصادية كأولوية لديه إصلاحات تسير على نهج الاستجابة إلى متطلبات صندوق النقد الدولي واستجرار مزيد من الاستثمار العربي الخليجي على وجه الخصوص لتخفيض معدلات البطالة التي تقر الحكومة أنها بلغت 14% في حين تتحدث أوساط إعلامية على أن البطالة تجاوزت حد 25% إلى 35% بين الشباب .
المقاربة التي يعمل عليها سدنة الحرس القديم بشقيهم لن تحصن الأردن في أي موجات احتجاجية أخرى قادمة وخاصة أن موجبات ومحركات الموجة الأولى للربيع العربي لا زالت قائمة بل أنها تفاقمت وتعمقت نتيجة لسياسة التقشف الاقتصادي وإحكام القبضة الأمنية من جديد .
يبدو أن النصائح التي تقدم بضرورة إجراء إصلاحات سياسية هادئة واستثمار هدوء الشارع والذهاب للإصلاح المتدرج بعيدا عن ضغط التوتر الذي يمكن أن ينفجر بأي لحظة لا تلقى الأذان الصاغية من الحرس القديم .
تاريخ الأردن السياسي الحديث يعلمنا أن المزاج الأردني ليس له مقدمات قبل الانفجار وأحداث 1989 في معان خير شاهد على هذا المزاج المتقلب لكن بالتأكيد أن الأردن سيكون أمام موجة احتجاجات جديدة للمطالبة بالإصلاح إذا ما بقيت وتيرة الإصلاح في حالة نكوص أو جمود على ما هي عليه الآن ، فهل يسمع صناع القرار لذلك ويقدموا الإصلاح في مناخ هادئ أمـ أنهم سيمارسموا مزيد من التعنت ونشهد انفجارات شعبية في الشارع من جديد ؟