كلمة السر

mainThumb

04-10-2016 09:25 AM

لماذا كان «الزمن الجميل» جميلاً؟ عندما أفكر في جواب مقتضب وشامل، أعتقد لأنه كان متقنًا. كل شيء كان متقنًا، ولا شيء كان اعتباطيًا. لم يكن على المغني أن يحفظ اللحن والشعر، بل كان يُفترض أن يكون مُنغمسًا في معرفة الشعر والموسيقى، بحيث يشترك في التصحيح والتعديل والاستبدال. ومن أجل ذلك انتقلت أم كلثوم من «المطربة» إلى «السيدة» إلى «الست». وبسبب ذلك أحبها الملك فؤاد الذي غنت له «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا/ ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا». وأحبها فاروق، وأحبها عبد الناصر، وتباهى السادات بصداقته معها.
 
وكان محمد عبد الوهاب معلمًا في الموسيقى وفي الشعر، غني المعارف، ومثل أم كلثوم، حاذق الظرف. ولذا، كان اسمه يقرن دائمًا بلقب «الأستاذ». ولم يكن سيد المسرح يوسف وهبي يذكر إلاّ بلقب «بيه»، لأنه لم يكن مؤديًا أول، بل مثقفًا وأديبًا وناقدًا بالغ الحساسية.
 
ولم يكن الأخوان رحباني يتقنان فقط الشعر والموسيقى والمسرح، بل كانا على اجتهاد عظيم في كل شيء. وكان عاصي ومنصور يتابعان السياسة العربية بذكاء ومقدرة ونباهة. وروى لي منصور مرة أنهما وقفا خلال حفلة لفيروز في دمشق، يتأملان، كالعادة، ردود الفعل على وجوه الحاضرين، وعندما انتهت فيروز من إنشاد «سائليني يا شآم» هبّ الحضور وقوفًا، فالتفت عاصي إلى منصور وقال له: «لقد انتهت الوحدة».
 
بعدها بأيام حصل انفصال 1961. وكان الأخوان يحيطان نفسيهما بالشعراء والكتّاب والمفكرين والموسيقيين. ولم يتوقفا عن التعلم لحظة واحدة. وكان منصور يقرأ على أصدقائه النصوص كأنه تلميذ مبتدئ ينتظر نصيحة أو نقدًا. وكان عاصي ومنصور يبحثان لدى الشعراء الآخرين عن أعذب الشعر لفيروز مع أنهما أرق من كتب أغنية بعد أحمد رامي وبيرم التونسي.
 
وكان أستاذا الصحافة اللبنانية، غسان تويني وسعيد فريحة، يكتبان مثل تلميذ يحرر فرضًا مدرسيًا عشية الامتحان. وقد أخفق في هذه المهنة الغفال الذين ركب رؤوسهم العند والغرور، فلم يتقدموا في حياتهم كلمة أو جملة أو فاصلة. ولذا، لم يكسبوا لقب «الأستاذ» الذي حمله عدد قليل من الأساتذة، الذين غيروا في المهنة، وارتقوا بها وصنعوا زمنها الجميل.
 
وفي الفن أيضًا عرفت مواهب كبرى كلَّسها الغرور، فأصر المطرب على أنه ملحن وشاعر، غير مكتفٍ بثروة الحنجرة. كانت كلمة السر «الإتقان». وسوف تبقى. ولن يحل محلها شيء.
 
*نقلاً عن "الشرق الأوسط"
 
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد