خلط كبير لدى كثير من النخب السياسية الإسلامية بين الدولة المدنية والدولة العلمانية، خلط جاء نتيجة التقاطعات الكبيرة بين المفهومين ، وصل هذا الخلط حده عندما وصف احدهم الدولة المدنية بالدولة الكافرة الفاجرة ، لكن هل الدولة المدنية هي فعليا دولة علمانية ؟ وهل هناك أوجه شبه بين الدولة المدنية والدولة العلمانية ؟ وما هي أهم أوجه الاختلاف ؟
(1) أوجه الشبه بين الدولة المدنية والدولة العلمانية
تتطابق مواقف الدولة المدنية والدولة العلمانية من عدة مفاهيم :-
• الديمقراطية : تؤمن كل من الدولة المدنية والدولة العلمانية بان إرادة الشعب وإرادة الأكثرية هي المرجع في اختيار قيادة وأعضاء السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية المخولة في إدارة الموارد العامة للدولة وان اختلفت الآليات وأشكال هذه الديمقراطيات من دولة لأخرى بما يحقق مصالح الشعب، كما تتفقان على أن البديل عن الديمقراطية كوسيلة اختيار وتصعيد وفرز قيادي هو التسلط والاستبداد .
• فصل السلطات : تؤمن كل من الدولة المدنية والدولة العلمانية بالفصل بين السلطات ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وان السلطة التشريعية هي الضابط لإيقاع عمل السلطة التنفيذية وان السلطة القضائية مستقلة في عملها ولا سلطان عليها إلا نصوص القانون وضمير القاضي .
• المواطنة : تؤمن الدولة المدنية والدولة العلمانية بالمواطنة كأساس لتنظيم العلاقة ما بين الفرد والدولة وان جميع مواطنيها أمام الدولة والقانون سواء بغض النظر عن الديانة أو اللون أو الجنس أو العرق أو الأصل والمنبت وان الكفاءة واحترام القانون فيها هي المعيار الرئيسي للتفاضل .
• الحرية : تؤمن الدولة المدنية والدولة العلمانية بان الحرية الفردية مطلقة لجميع أفرادها ورعاياها ما لم تكن مخالفة للقانون فالمعيار في ضبط هذه الحرية هو معيار موضوعي في التحديد من الحرية وسقفها ( عدم تجاوز أحكام القانون) فكل تصرف لا يوجد نص قانوني ينهى عنه يستطيع الفرد أن يمارسه ، فالحرية في الدولة المدنية والدولة العلمانية شيء مصون ومقدس ما دامت لم تخترق النص القانوني والنظام العام ولا تخالفه .
• الدولة الوطنية : تؤمن كل من الدولة المدنية والدولة العلمانية بالدولة الوطنية كأساس للرعاية والاهتمام وانه لا تكليف لأي فرد بالواجبات ولا منح للحقوق خارج حدود الدولة وإقليمها حتى لو كان يحمل ذات الديانة أو العرق أو اللغة فكل من يقطعن على ارض الدولة ويحمل جنسيتها فقط هو مواطن فيها له ذات الحقوق وعليه ذات الالتزامات .
• حقوق المرأة وحقوق الإنسان : تؤمن كل من الدولة المدنية والدولة العلمانية بحقوق المرأة وحق المساواة مع الرجل في الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية كما تؤمن الدولة المدنية والدولة العلمانية بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان بكل ما جاء فيه .
(2) أوجه الاختلاف بين الدولة المدنية والدولة العلمانية
أ- تاريخ النشوء
نشأت فكرة الدولة العلمانية في أوروبا بعد الثورة الفرنسية عام 1789 وسقوط حصن الباستيل والذي أسس لسقوط عصر الملكيات والتأسيس لعصر الجمهوريات وإنهاء تحالف الملكيات المستبدة مع رجال الدين والكنيسة فكان الشعار السائد في الثورة اشنقوا أخر مستبد بأمعاء أخر قسيس فكانت الثورة جزء منها على استبداد الكنيسة وحمايتها للدكتاتوريات
بينما نشأت فكرة الدولة المدنية في المنطقة العربية ذات الأغلبية السكانية التي تعتنق الدين الإسلامي وظهرت معالمها بوضوح وترعرعت بعد ثورات الربيع العربي كمحاولة من الحركات الإسلامية التكييف مع مد الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية والخلاص من الاستبداد الذي نادت به في نهاية عام 2010 – وبداية عام 2011 والذي شهد احتجاجات أطاحت بعدة دكتاتوريات عربية.
ب- الموقف من الدين
نظرا لطبيعة نشوء فكرة الدولة العلمانية التي جاءت نتيجة لثورة على الاستبداد الملكي المدعوم من الكنيسة ونظرا للحروب الطائفية التي دارت في أوروبا لعقود طويلة فان الدولة العلمانية فصلت فصلا تام ما بين السلطة الدينية والسلطة السياسية حتى أن بعض النماذج العلمانية تطرفت في محاربة أي مظهر من مظاهر التدين كمنع ارتداء بعض الألبسة والأزياء الدينية خارج دور العبادة أو إظهار أي مظهر أو رمز من الرموز الدينية في المجتمع إذ يحكم العقل الباطن للعقلية العلمانية أن الاستبداد والحروب الطائفية يمكن أن تعود بمجرد أن يبزغ في المجتمع أي مظهر من مظاهر التدين فتم منع ارتداء القلنسوة اليهودية والحجاب الإسلامي ومنع بناء المآذن في ايطاليا حتى منع التواجد بملابس السباحة للفئات المتدينة في الشواطئ العامة فالعقلية العلمانية مسكونة بالرهاب الديني إذ تعتبر إظهار رموزه أول خطوة على طريق الحروب الأهلية وشرعنه الاستبداد والحد من الحريات .
الدولة المدنية التي نشأت في عقلية نخب الدولة العربية أو بدأت تتأطر فكرتها بعد الربيع العربي ليس لها هذا الصراع مع الدين والتدين بكل أشكاله إذ أنها لم تأتي كثورة على رجال الدين كما هي الدولة العلمانية لذلك لا نجد هذا الصراع بين الدولة المدنية والسلطة الدينية حتى أن الدولة المدنية لا تمانع أن يمارس المتدينون السلطة السياسية لكن بصفتهم ساسة لا رجال دين لما للسلطة الدينية من اثر ومهابة في النفوس يصعب انتقادها ومعارضتها .
تتجلى المفارقة بين الدولة العلمانية والدولة المدنية إن من أوائل من حمل فكرة الدولة المدنية وبشر بها مفكرون محسبون على الخط الديني المحافظ مثل الشيخ راشد الغنوشي والمحامي عبد الفتاح مورو من تونس والدكتور رحيل غرايبة من الأردن وقبلهم الدكتور الراحل حسن الترابي من السودان ، كما أن الدولة المدنية لا تمانع أن تكون القوانين الناظمة لحياة الناس مستمدة من الشرائع السماوية أو من تراثها الفقهي ما دامت تحافظ على أصول الدولة المدنية ولا تنقضها والمتمثلة في ( الديمقراطية والحرية والمواطنة والإيمان بالدولة الوطنية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة ) والتي يرونها لا تتعارض مع ما أرادته الشرائع الدينية
(3) موقف الحركات الإسلامية من الدولة المدنية .
يبدو أن ثورات الربيع العربي فاجأت التيارات الإسلامية في كل شيء ، فصعب على هذه الحركات نظرا للهياكل التنظيمية التي تحكمها أن تستوعب هذه التطورات وتتكيف معها سريعا إلا نادرا .
المدرسة الإسلامية المغاربية في تونس والمغرب استطاعت أن تتكيف سريعا مع مفهوم الدولة المدنية وانحازت إليه بشكل سريع وبجرأة عالية فكانت المراجعات سريعة وردات الفعل تتناسب مع الحدث فنجح الحراك الشعبي في المغرب والثورة في تونس وبدأت قواعدها ترسو رويدا رويدا نحو مفهوم الدولة الحديثة دولة الحرية والمؤسسات.
المدرسة الإسلامية في بلاد المشرق العربي لم تستوعب مفردات الدولة المدنية ولم تهضمها بالشكل المطلوب وبقي التيار الإسلامي الحاكم في مصر يداه ترتجف في حسم انحيازه لخيار الدولة المدنية فأعطى مزيدا للحركات الدينية الأصولية من المشاغبة على هذه الخيار ومحاولة إسقاطه ، فآلت الثورة إلى الفشل بعد أن استثمر العسكر هذا التلجلج في المواقف ووظفه في انقضاضه على الثورة والسلطة
في الأردن تزعم الدكتور رحيل الغرايبة هذه المدرسة الفكرية ونظر لها فتم محاصرته من قيادات الحركة التقليدية المحافظة أتباع المدرسة التنظيمية التي تقدس الهياكل التنظيمية وتم وفصله وثلة من رفاقه من الحركة وتم محاربة هذه الرؤيا ومناصبتها العداء حتى ظهر ذلك جليا في خطاب نقيب المحامين السابق صالح العرموطي مرشح الحركة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة قبل أسابيع عندما وصف في حملته الانتخابية الدولة المدنية بالدولة الكافرة الفاجرة وأعقبه مقال للدكتور همام سعيد المراقب العام السابق للإخوان المسلمين والذي كتب في ذات المضمون والطرح ، إلا انه في مقابلة قبل بضعة أيام لنائب المراقب العام السابق زكي بني أرشيد تبنى طرح الدولة المدنية في مقابلة مع CNN العربية مما يشيء بان قرون استشعار حركات الإسلام السياسي في المشرق العربي ضعيفة جدا وتحتاج وقت طويل في التقاط الذبذبات السياسية وسرعة التكيف مع الواقع .
لا زالت قطاعات كبيرة وغالبة من قيادات المشرق العربي الإسلامية ناهيك عن غالبية القواعد عاجزة عن التكيف مع التطورات والواقع السياسي الجديد وان هذه القطاعات لا تؤمن بالدولة المدنية ولا بمفرداتها ولا زالت تحت سيطرة حلم الخلافة الإسلامية كنموذج حكم يصلح لكل زمان ومكان كما يرون معتبرين صلاحية هذا النموذج من صلاحية الدين حتى انه دخل في صلب الاعتقاد والتعبد لديهم مما يشيء بان الحركات الإسلامية سوف تبقى تعاني لوقت أطول سياسيا مما يجعل منطقة المشرق العربي والتي تعيش حالة مد إسلامي لدى القواعد الشعبية في حالة عجز وعالقة في عنق الزجاجة سياسيا لمدة أطول .