أعلم بأنك لست مهتما بالاستماع لحديثي عن أمي ، أو القراءة عن مناقبها ، فهي ليست أُمك ، وقد لا تهمك ، ولكنّ ما سأقوله ليس حكرا على أمي ، بل هو في كل أم حملت رسالتها ، وأوصلت ذريتها إلى بر الأمان ، في زمن قلّ الحديث فيه عن الأم ، وزاد الحديث فيه عن الذات .
الأم زهرة في بستانها ، لا يحلو الجلوس فيه إلا بتفتحها ، وتفوح رائحتها لتملأ المكان بالأمل والعطاء والطمأنينة .
الأم ، تلك الزهرة المتفتحة في كل صباح ، تتطاير حولها الفراشات والنحل لتلقط منها ما لذّ وطاب ، لتبدأ يومها برحيق عذب المذاق ، تتهادى عليها الفراشات ، تثقل كاهلها ، تحني سيقانها وأوراقها ، لكنها تتمالك نفسها حتى يلتقط كل منها ما يريد .
تلك الزهرة التي تنتظر شروق الشمس بفارغ الصبر ، لتحتضن فراشاتها بعد غياب طويل بالنسبة لها ، فهي لا تحتمل الفراق ، ولا تقدر على البعاد ، تبقى تتزهر وتتفتح رغم ما انقطع عليها من ماء أو غذاء ، ورغم ما قست عليها فراشاتها عبر السنين .
تلك الزهرة التي تنتظر اشراقة شمس الصباح ، لترتسم البسمة على محياها ظاهرة واضحة ، رغم ما مرّت به من حلكة الظلام ، فهي عنوان الأمل والتفاؤل ، وهي عنوان الحياة ونعيمها ، وهي عنوان الصبر والتحمل ، وهي عنوان كل جميل .
تلك الزهرة التي وقفت في وجه الرياح العاتية التي تهّب عليها في كل شتاء ، فتفعل فيها ما تفعله ، حتى أنها تنحني لتمر تلك العواصف بسلام ؛ ليس من أجلها ، بل من أجلن الفراشات التي اعتادت على أن ترسو عليها ، وتتزود منها ، حتى أتقنت مواجهتها ، فأصبحت تحولها من خطر يداهمها إلى أمل في حياة أفضل لفراشاتها .
تلك الزهرة التي اعتادت جفاف الأرض التي تسكنها ، وحين تبحث عن الماء فلا تجده ، تبدأ عيناها بالبكاء وهمر الدموع ، فتتساقط الدموع على جذورها ، وتسقي نفسها بنفسها ، معلنةً أن رغم ما نعيشه من ألم هناك فسحة أمل .
مع مرور الأيام تشيخ هذه الزهرة ، وما شاخ قلبها ، احدودب ساقها ، وبقيت كرواس شامخات ، ظهرت الندب على اوراقها ، وبقي قلبها نهرا عذبا صافيا ، تؤمه الفراشات كل صباح ومساء . ورغم ما يحتويه البستان من أزهار ذات ألوان زاهية ، تبقى هذه الزهرة بالنسبة للفراشة ذاتها أجمل الأزهار ، وأحنها عليها ، وأقرب إليها . حتى إذا ما ذبلت هذه الزهرة ، وجاء اليوم الذي تشرق فيه الشمس ولا تتفتح هذه الزهرة ، بدأت الفراشات بالبحث عنها بين أزهار البستان ، رائحتها تختفي ، ابتسامتها تغيب ، انعكاس ضوء الشمس الساقط عليها والباعث للأمل يغيب في السماء ولا يسقط على عين الفراشات ، حتى تكاد تفقد الفراشات بصرها ، تتنقل بين وزايا البستان باحثة عن بقايا لرائحتها ، أو عبيرا من عبيرها الذي ملأ المكان يوما ما ، ولكن ،،، لا مجيب .
لم أكن اتوقع يوما -ولا حتى- في الخيال أن استيقظ ذات صباح ، و أطرق الباب على أمي ، فلا تجيب . لم أتخيل يوما أنني أسقف وبقسوة لم أعهدها في نفسي لأضع التراب على جسد أمي ، ذلك الجسد الذي احتضنني وألهمني ، ذلك الجسد الذي ضحى بكل ما لديه من أجلي ، حاولت ألا أضع نفسي في هذا الموقف لشدة ضعفي ولكن أقدار ربي كانت أقوى وأجل .
وفي الختام تضعني تجارب الحياة أمام حقيقة تخالف كل القوانين مفادها (أن رؤية الأشياء تكون من خلال انعكاس الضوء الساقط على عينك أمي) .