هل ستؤسس قطر إمبراطورية افتراضية؟

mainThumb

29-06-2017 04:25 PM

لزمن غير بعيد، وربما لأقل من خمسين عاما مضت، كانت القوى العظمى العالمية المهيمنة على محاور استقطاب النفوذ الكوني هي ذلك الشكل التقليدي من الدول الكبرى، كبرى بمعنى الكلمة من حيث المساحة ومدى النفوذ والسيطرة وعدد السكان و حجم الموارد الطبيعية و الصناعية و القدرة العسكرية النمطية (من جيش مشاة وفرسان و دروع و قطع بحرية و حديثا الصواريخ والطائرات و الردع النووي). في ذلك الزمان كانت القوة والنفوذ تتخذان شكلا (ماديا ملموسا) بشكل أساسي.
 
مع تطور مظاهر الحياة والتقدم التقني المعاصر و ظهور اقتصاد المعرفة وتقنيات الاتصال والمعلوماتية و استحواذ قطاع الخدمات والقطاع المالي على معظم النشاط الاقتصادي و عوائد نشاطاته، كان نتيجة ذلك تراجع دور الاقتصاد الحقيقي و الإنتاج الصناعي للسلع الملموسة لحساب الاقتصاد الحديث الذي يتسم بالنعومة والافتراضية.
 
نستطيع القول اليوم بأن الإنسان الحديث ما عاد بحاجة للعضلات لكي يكسب قوت يومه، بمقدار ما هو بحاجة لأن يتقن استخدام الحاسوب و اللغات الأجنبية و تقنية المعلومات و الرياضيات و المنطق وقدرات التحليل و الاستنتاج.
 
هذا التغير الجذري في نمط الحياة ومؤشرات الأداء جعل معايير القوة تتبدل، فأي دولة مثلا تستطيع أن تصنع صاروخا، ولكن بضع دول فقط تستطيع أن تجعله "ذكيا" كفاية لكي  يتملص من أنظمة الرصد والتتبع، وأن يضرب هدفه بدقة. وربما يعترف كثيرون بأن علوما كالميكانيك وغيره قد تراجعت أمام علوم أكثر نعومة كالبرمجة والذكاء الصناعي.
 
العالم اليوم يستفيد من الأدمغة والأموال أكثر بكثير من أي مورد آخر، والقدرة على البحث والتطوير والابتكار هي أكبر محركات النمو والازدهار الاقتصادي للدولة العصرية. من هنا يمكننا استشراف نموذج مستقبلي للدولة العظمى يختلف بالكلية عن ذلك النمط التقليدي الذي عايشناه طويلا. إنه نموذج الإمبراطورية الافتراضية (Virtual  Empire)  تلك الدولة التي تمتلك نوعية تعليم عالية، ورأس مال بشري مبدع و مبادر، ومعرفة بعلوم الحاسوب والبرمجة و التطبيقات العملانية لها، و ذكاء رياضي متقدم، و أموال متوافرة للاستثمار، و قنوات اتصال وإعلام عصرية عالمية الشكل والمضمون، وشبكة علاقات سياسية واقتصادية متطورة وفاعلة، إنها إمبراطورية ناعمة و لكنها عظيمة التأثير و عالية القدرة على الفعل،  وربما تستطيع هزيمة أعتى الدول العظمى التقليدية التي ما زالت "خشنة" الطابع والإنتاج.
 
دولة صغيرة كسنغافورة تبني موانئ إلكترونية ذاتية الإدارة، ودولة ككوريا الجنوبية تمتلك معظم المعرفة الزراعية في العالم، ودولة كإسرائيل تصدر تقنية الطائرات للصين والهند. هذه نماذج من الدول صغيرة الحجم و قليلة الموارد و لكنها بقدرات عالمية بدون منافس.
 
قطر، تلك الدولة شبه الجزيرة، هي في مسعى جاد لبناء نموذج عالمي للإمبراطورية الافتراضية الناعمة العصرية رغم صغر المساحة وقلة السكان، فقناة الجزيرة بشبكتها العالمية متعددة المحتويات واللغات باتت مرجعا إعلاميا لا يقل أهمية عن أعرق وأكبر شبكات الإعلام في العالم. ورأس المال القطري و صندوقها الاستثماري والسيادي يعد أحد أنشط صناديق الاستثمار وله من التأثير على عدة صناعات و قطاعات اقتصادية إقليميا وعالميا. وها هي تحتل المرتبة الأولى بنوعية التعليم في الوطن العربي، وها هي على أبواب استضافة كأس العالم، والمواطن فيها من الأعلى دخلا ورفاهية، كما أن حجم ومستوى نشاطها الديبلوماسي والسياسي يضاهي الدول الكبرى، فهي تستضيف الأمريكيين في قاعدة العيديد، و تقيم للأتراك قاعدة عسكرية، و تستقبل المعارضين من الدول الإقليمية الكبرى، و تساهم في دعم القوى التحررية والمعارضة في أكثر من مكان، كما أنها تؤسس لشبكة تحالفات دولية فاعلة ومعقدة قائمة على تبادل المصالح السياسية والاقتصادية.
 
لطالما كان هنالك جدلا حول أفضلية الحجم أمام النوع، و لكن المرونة والحركية والاستجابة والتكيف هي جميعا قدرات عصرية لا يتقنها إلا  الرشيقين. ولعل السنوات القادمة تجعلنا نشاهد نموذجا عملانيا لنظرية "الإمبراطورية الافتراضية" وقد تكون قطر أنموذجا لذلك. 
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد