لكل شيخ طريقته

mainThumb

19-10-2022 02:00 PM

نقلت بتصرف عن الكاتب والمترجم الأيرلندي فرانك -كونر-
ذات مرة ، حين كنت أحاضر في أمريكا كالمعتاد، لم استطع ان افكر في عنوان محاضرتي ، فأشار علي احد الناس ان يكون العنوان " لكل شخص أسلوبه" . لقد راق العنوان لي فرغبت في تكراره لمحاضرة أخرى . لأن كتابة القصة القصيرة هي عملي فكما نعرف جميعا نحن اللذين نكتب القصة القصيرة هناك طريقة واحدة فقط للقيام بالعمل أي طريقتك الخاصة التي تنفذ بها عملك!
وأنا اتناول هنا أسلوب الكاتب الخاص في كتابة القصة وافضل شيء يحبه المرء في كتابة القصة هو القصة ذاتها! والقصة تبدأ عندما يمسك شخص بثنية معطفك التي فوق صدرك ويقول لك:" من اكثر الأمور غرابة هو ما وقع لي امس." فانا لا احب القصة التي تبدأ بعبارة" انا لا اعرف إن كانت القصة تهمك لكني راغب في وصف عاطفتي عند الغروب أمس." وهذا لا يعني انه ليس لديه شيئا مفيدا يقوله فقد يكون لديه أشياء اهم مما يقوله الشخص الأول الذي لا يستعمل في مقدمة القصة عبارة– انا لا اعرف ..-فقد يكون لديه أشياء تجعلني ارتجف غضبا او قرفا. فأنا احب ان احس ان الشخص يريد ان يبوح بشيء ما وإن لم يفعل فقد ينفجر!
فالقصة قد تدور حول أي شيء فربما تكون حول حادثة لكلب أشعت ضال او تكون أحداثا اكثر تعقيدا قد يعيشها المرء طوال حياته وتشغل تفكيره كي يجد معانيها! اسمحوا لي ان احكي لكم قصة جعلتني افكر متعجبا :
ذات مرة كنت انا ووالدي ماكثين في -مقاطعة كورك- في ايرلندا الجنوبية. ودخلنا في نقاش مع اب هاجر ابنه الى أمريكا. وهناك تزوج فتاة من ايرلندا الشمالية ، وبعد الزواج بوقت قصيرة مرضت الزوجة ونصحها الأطباء بالعودة الى موطنها كي تشفى (لأن فرصة شفاء المريض تكون اكبرإذا كان طعامه من الأرض التي ولد فيها" لكنها قبل ان تذهب الى عائلتها مكثت ستة أسابيع لدى عائلة زوجها في مقاطعة كورك في ايرلندا الجنوبية وقد أحبها جميع افراد العائلة. لكنهم علموا بعد مغادرتها لهم ان ابنهم كان قد مات قبل ان تغادر أمريكا.
وقال المزارع مستهجنا:" لماذا تصرفت معنا هكذا ولم تخبرنا بموت ابننا؟"
وطالما سألتُ نفسي هذا السؤال سينين طويلة,
احيانا تعطيك القصة جوابا لسؤال واحيانا تتركك في حيرة دون إجابة على سؤال قد يراودك! لقد لازمني دائما شعور بالخزي من تصرف غبي فظيع تجاه والدَي ، تصرف ليس له مبرر! ومرت الأيام الى ان جاء يوم قبل سينين عدة عندما كنت انا وزوجني نتجول على مهلنا في مدينة أمريكية صغيرة فوصلنا زاوية وجدنا فيها نجلنا وصديقته –كانت اول فتاة في حياته وكنت لابسا قبعة آران - قبعة من جزيرة آران على الساحل الغربي من سكوتلندا ، كانت القبعة منبسطة ومستديرة مصنوعة من الصوف مناسبة للشتاء في أمريكا! وعندما رأنا ابننا إربدّ وجهه بينما انفرجت اسارير الفتاة وبدى على وجهيهما كأنها يقولان ابننا قد شعر بالخزي لأن والده كان قد وضع على راسه قبعة صوفية حبيكة يدوية بينما ابتهجت الفتاة إذ رات أبا يختلف لباسه عن لباس أي اب امريكي!
في تلك اللحظة فهمت غبائي الفظيع، وادركت أن الوقوع في الحب يعني ان تخجل من سلوك والديك وان تُعْجًب بوالدَي الطرف الآخر. و في سن السابعة عشرة يكون لدى الشخص طموحات يجب تلبيتهاا!
لكن قبل أن اكتب تلك القصة، او ان اطلب من تلاميذي كتابتها، يتحتم عليّ ان اعرف كيف ستبدو. فمن الايسر صياغتها بأربعة أسطر وهذا هو الأمثل ولن اغضب اذا كتبت بخمسة وقد يكون أحيانا من الصعب كتابتها بستة، لكني احسب ان اربعة اسطر هو افضل طول لها ، فالأربعة قد تكون البذرة وأي زيادة عن ذلك فانه قطف من حدائق الاخرين1
والمثال الذي اقصده قد يكون في الشكل التالي:
ماري مارتن ، غير متزوجة ، في الثانية والعشرين ومدرسة في بلفاست. وهي ابنة والدين محترمين ووالدها موظف في ورشة بناء السفن ووالدتها خيّاطة.وهنا اشعر فورأ اني مقيد اليدين والقدمين بالعبارات : بلفاست و التعليم المدرسي ، وبناء السفن والخياطة . ولدي انطباع اني لن ارى المواضيع في إضافات أخرى . وهذا هو السبب الذي يحدوني ان أرى الموضوع مختصرا في أربعة اسطر حتى وان اقتضى ذلك استعمال رموزا جبرية !
وبذلك الاسلوب فان القصة التي ذكرتهاا سابقا حول المزارع كبير السن في مقاطعة كورك ، قد تكون في الشكل الاتي:
تزوجت س من ص في الخارج،
بعد وفاة ص
عادت س الى ديار والديه.
لكنها لم تخبرهم ان ص قد مات.
قد يبدو هذ الأسلوب بسيطا لكني أرى ان له ميزاته فهو اسلوب يتيح لي ان انسى كل شيء حول مقاطعة كورك و الولايات المتحدة وحتى انسى جنس شخصيات القصة وهذا يجعلني احسب س ذكرا لا انثى, وتتيح لي الحرية ان اجرب القصة في اماكن أخرى او مجموعات أخرى من الناس( قد ينطبق هذا على الكتابة في اللغة الإنجليزية لكنه لا يتيسر في العربية)
من الواضح أن هناك مقيدات لهذا الأسلوب، فانت ليس بوسعك ان تكتب قصة (الاعتراف البسيط الأول امام الكاهن ) . لأسرة بروتستانتية لأن الكاثوليك هم يمارسون هذا الطقس! من
لكن يلازمني إحساس ان هناك خللا ما في الخاصية الشِعرية لأي قصة قصيرة تلتزم التزاما وثيقا بالمكان او القومية او الدين او المهنة . فأحدى القصص التي أحبها اكثر من كل قصصي قد سمعتها في الأصل عن ممثل انجليزي مشهور وفتاة من لندن لكني لم اكن اعرف أي شي عن الممثلين الانجليز ولا بنات لندن فلذلك اخترت دبلن عاصمة ايرلندا الشمالية مسرحا تدور فيه القصة وقد نجحت في كتابة القصة دون تأثير خطير في موضوعها ! وانا احس انها خير قصة كتبتها!
والحرية التي انادي بها أرى انها تنطبق على كل وجه من أوجه حكاية القصة. فعندما اكتب قصة حول رجل الدين أحاول الا أفكر فيه كرجل دين! وكذلل الحال بالنسبة لرجل القانون ورجل الامن. فمهنة الشخص يجب ان تجليها ظروف الحكاية. وعلى الكاتب تجاوز ظروف معينة ، ويجد في الشخصية التي يكتب عنها ما يجعله فردا يمتاز عن غيره فهي ليست مجرد شخص بمهنة! بل يبرز ما يجعل رجل الدين يميل الى الهواة من ممثلي المسرح والظروف هي التي تجعل رجل القانون يحب الورود وهي التي تجعل الشرطي يغني مع كورال الكنيسة يوم الاحد! وهذ ما جعلني اعد ان لقصة الكاتب تشيكوڤ الروائي والكاتب المسرحي الروسي ( 1860 – 1904) منظور ا داخليا فبدلا من سرد مباشر سطحي فلديك بناء كالحياة ذاتها- شيء بوسعك ان تدخل فيه ثم تخرج منه او ان تتجول فيه ويمكن ان تمسك الناس من زوايا قديمة!
قبل انا أبدا الكتابة الفعلية للحكاية اضع مخططا لها و احدد العناوين العريضة عدد فقراتها و المشاهد الضرورية وغير الضرورية ,. واي الشخصيات التي تبرزها بقوة .عند هذه المرحلة من السهل تعديل المشاهد لغاية تركيز ابراز الشخصية بحيث تلقى الضوء عليها حيثما شئت. وفيي مرحلة تالية يقتضي الامر منك عزيمة قوية ومثابرة . وبطبيعة الحال فان تدقيقا وثيقا في الأربعة اسطر يجب ان يعطينا فكرة جلية لصورة تناولنا للشخصية لكن من المستغرب انها لا تعطينا في كثير من الاحيان!
وتاليا مثالان تناولهما تلميذان من تلامذتي: الأول ذكر كيف ان امه اخذته من المدرسة عندما كان تلميذا صغيرا اخذته الى محطة قطار في ضاحية حيث اشارت له على فتاة وسيمة وقالت له اتبعها حيثما ذهبت . وصعدت الفتاة في قطار وصعد الولد في نفس المقطورة وبعد ان توقف القطار في عدة محطات نزلت الفتاة من القطار وتبعها الولد على منحدر سهل النزول يقود الى منصة عالية الى الشارع . ورأى من اعلى المحدر سيارة والده فادرك قصد امه من طلبها متابعة الفتاة
وحكى القصة الثانية تلميذ من نيويورك ! درات القصة حول الابن الوحيد لأرملة يهودية - ارملة سلمون ، كانا لها بقالة بسيطة في احدى عشوائيات نيويورك ! وقرابة سنه والولد كان يسرق من جارور النقود القطع المعدنية- ربع دولار ونصف دولار ويذهب الى السينما.
وفي يوم عاد الولد الى امه فوجد انها قد اعتدى عليها وغد يهودي وسلب النقود ،لكن تمكنت الأم من تميز ملامحة! وحالا اراد الولد ان يطلب الشرطة . لكن الام رفضت قائلة : ليس سيئا ان الا يكون لدي ولد كهذا
وبعد فترة توقف الابن عن اختلاس القطع النقدية!
كان للحكايتين فكرتان جيدتان. لكن طوال حياتي لم اشر الى طريقة سردهما : هل نستخدم في السرد ضمير المتكلم او الغائب؟ واختيار الضمير: المتكلم او الغائب من اصعب الخيارات للكاتب المبتدئ! فإن استخدمت ضمير المتكلم فالتأثيرات والأحاسيس التي تحدثها تكون عميقة من المستحيل احداثها باي طريقة أخرى ! و بوسعك التأكد من ذلك بنفسك : فخذ مثلا الجملة :" رايت سيارة والدي تقف في الأسفل هناك في الشارع! فهذه الجملة لها تاثير عاطفي اكثر قوة بمرات عديدة من الجملة: راى بيتر سيارة والده تقف في الأسفل في الشارع!
وفي القصة الثانية :الجملة " سرقت نقودا من والدتي!" لها تأثير اكبر من جملة :" سرق اسحق نقودا من والدته."
وفي الحقيقة ، في الموضوع الثاني،اجد انه من الصعب تناول القصة باي طريقة أخرى ،فان تناولتها بضمير الغائب فلن يكون لديك مجال للاختيار بين الولد وبين سلومون فكل ما بوسعك فعله هو اللجوء الى القياس كما فعل الروائي الايرلندي جيمز جويس في "النظائر"
لكن في الحقيقة فالولد الذي تدور حوله القصة يرى الفرق بوضوح ، لكنه تدريجيا او لا شعوريا يدرك القياس !
لكن الموضوع الأول هو مشكلة معقدة اكثر فلا تستطيع احداث ذات التأثير الا اذا غيبت تماما العلاقة بالوالدين وتجاهلت أي غضب شيطاني اعتمل في صدر الام فجعلها تورط ابنها البريء في تجربة مقرفة ,هل بوسعك تجاهل ذلك؟ هل بإمكانك تجاهل إمكانية ان الاب كان رجلا نظيفا حقا لكن اجبرته تصرفات زوجته الهستيرية على الانحراف ؟
وهذا ما يجعلني اصر في الدرس على حجب القصة واسمي ذلك معالجة القصة رغم ان كل الطلاب يكرهون ذلك فهم دائما يريدون البدء مباشرة! فمثلا :" ذات مساء ربيعي وفي أجواء ثلجية كانت الجماهير في الجادة الثالثة حيث شارات النيون على واجهات البارات تنعكس على عيون موظفي المكاتب المجهدة كانت الجماهير تسرع الى البيوت ،وهذا الشي يجعلني امزق شعري ، لأني اعرف ان الساعة الواحدة الا عشر دقائق القصة لا تبدأ في الجادة الثالثة ابدا ، وان أي شيء أقوله بعد ذلك حول ضرورة كتابة القصة باستخدام ضمير الغائب او ضمير المتكلمٍ . و بطريقة او أخرى سيصيغ التلاميذ القصة على انها تقع في الجادة الثالثة ذات مساء ربيعي عندما تنعكس انوار النيون في عيون موظفي المكاتب المنهكة وغير ذلك . بما انكم الان قد عرفتم شيئا عن الشخصية الصادمة لقصتي فربما قد تصورتم الصعوبة التي سببها لي تلميذي! لقد ضحى بحريته من اجل ان يكتب فقرة جميلة والكتاب الصغار يحبون الفقرات الجميلة لذلك نجتاج الى عملية كبرى لاستبعاد تلك الفقرة . ونجعله يفكر ثانية في موضوعه! ويأتي وقت الكتابة الرائعة عندما يكون كل شيء آخر صحيحا. عندما تعرف كيف تروي القصة وتعرف الشخصيات التي تريد ان تروي حكايتها وككاتب للقصة تريد ان تصيب نقطة التحول او عقدة القصة .التي بعدها يتغير كل شيْ كانت تلك اللحظة في الموضوع الأول عندما يدرك الولد الشيء الذي جعلته امه يفعله في والده ، وفي الموضوع الثاني عندما تقول السيدة اليهودية الكلمات التي تجعل ابنها يدرك انه هو لص أيضا .
الذين يعرفون منكم شيئا عن طبيعة عملي سيدركون حتى عندما تتخذوا كل الاحتياطات التي تحول دون تضيع اوقاتكم ، عندما يكون كل شيء مرتبا و حسب القواعد ، فلن يبقى شيء لكم الا ان تنتجوا قصة كاملة ، لكنكم في كثير من الأحيان لا تفعلون ذلك . وبَيّنَتي على ذلك نابعة من قصة كنت قد كتبتها بعنوان " الاعتراف الأول" تدور القصة حول ولد صغير يذهب اول مرة للاعتراف ، وهناك يعترف انه قد خطط لقتل جدته . لقد كتبت تلك القصة قبل خمسة وعشرين عاما وقد نشرت ودفع لي مقابلها . كان من المفروض ان أكون سعيدا بذلك لكن هذا لم يحدث ، فما ان بدأت في قراءة القصة حتى ادركت اني لم احقق الهدف منها. لقد تشتت الهدف مع الزمن .
وبعد سنين كثيرة كانت مجموعة من قصصي قيد النشر ، فأعدت كتابة القصة وقد كثفتها في ساعة ز وهذه النسخة تم نشرها أيضا وأصبحت رائجة حتى اني كسبت مزيدا من المال ريعا لها اكبر من ريع أي قصة كتبتها سابقا . ربما تظن ان ذلك قد ارضاني! فهذا لم يحدث
وبعد مضي سنوات ،اخذت القصة واعدت كتابتها في صيغة ضمير المتكلم لأني شعرت انها واحدة من القصص التي لها أهمية اكبر عندما يرويها المتكلم فكان مُهّما اكثر ان أقول :" لقد خططت لقتل جدتي ." ومن ذلك الحين، يسركم ان تعرفوا، انه كلما صحوت عند الرابعة في الصباح وافكر في ذنوبي فلم اعد افكر في الجريمة التي ارتكبنها بحق جاكي في وصف اعترافه الأول وتم انهاء القصة كما ينبغي وانتهت بنقطة من الثقة اتمنى انكم ان تعتقدوا انكم ان عملتم بجد واجتهاد على مدى خمسة وعشرين او ثلاثين عاما سيكون لديكم فرصة معقولة في ان تنتجوا قصة كما ينبغي حسب الاصول!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد