نحن وبنو إسرائيل

mainThumb

07-11-2022 05:08 PM

لقد جاء القرآنُ الكريم على عدد غيرِ قليلٍ من المعتقدات والأفكار التي كانَ يعتقدها بنو إسرائيل، وذلك في سياق تكذيبهم وتقريعهم ونفي ما هم عليه من أوهامٍ ومعتقدات فاسدة لا تصحّ، وأنّهم يفترون الكذبَ على الله سبحانه.
ومع كثير من الحزن والأسف، فإنّ السّواد الأعظم من المسلمين يؤمنون بها، والقرآن بين ظهرانيهم، يبيِّن بطلان ما يدعون إليه، وقد أصبحت عندهم عقيدة يكفِّرون من ينكرها أو يحاربُها كما أنكرها القرآن ورفضها، والمُشكِل ليس عند عوام المسلمين، بل في مدونة الفكر الإسلاميّ عند غالبية المذاهب الإسلاميّة، ولا ريب أنَّ هذا يدلُّ دلالةً واضحة على هجران المسلمين للقرآن العظيم، واتخاذهم رجال الدين أربابا من دون الله، ومن تلك المعتقدات ما يلي:
خيرية الأمة / شعب الله المختار
يعتقد أغلبُ المسلمين أنّ خيريّة الأمّة مرتبطة بالانتماء لهذه الأمّة، سواء أكانت انتماء وراثيّا أم عقديّا، وبمجرد الانتماء لهذه الأمّة فهذا يعني أنهم الفرقة الناجية بجميع أفرادها، كأنهم فريق كرة قدم، فبمجرد فوز الفريق فالجميع سيُكرَّم ويحصل على الميداليات الذهبيّة أو الفضيّة، اللّاعب المميز واللاعب الضّعيف واللاعب الذي أضاع عليهم عشرات الأهداف. وانتماء هذا اللاعب لذلك الفريق الفائز والمميز، يُشعره بتميزه وانفراده عن غيره لانتمائه لذلك الفريق.
وهي الفكرة ذاتها التي يؤمن بها اليهود والنصارى من بني إسرائيل، ولا شكّ، أن الإيمان بهذه الفكرة هو السبب وراء فساد بني إسرائيل وتجرؤهم على الله، وكبرهم ونظرتهم للآخر نظرة احتقار وازدراء واستهزاء، كيف لا! وهم شعب الله المختار، كيف لا! وهم أحباب الله، ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰۤؤُا۟ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰۤؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ﴾، ولو لم يكونوا كذلك لما اختارهم الله ليكونوا أحبابه وأنصاره، وهذا قادهم إلى نفي الآخر وإلغائه باعتبارهم أشرار الخلق و من أسوئهم وأنَّ النّار أعدت لهم، كما أن الجنة أعدت لنا كأمة مختارة وأمة خير لأنَّ الله اختارنا لذلك.
لم تكن الخيريّة كما يظهر ذلك من القرآن العظيم، مرتبطة بعرق أو دمٍ أو نَسَبٍ أو مجرّد الانتماء لدين أو فكرة أو طائفة أو مذهب، إطلاقا، الخيريّة مرتبطة بعمل الخير، والنهي عن المنكر، وعدم التأله على الله سبحانه، وعدم الحكم على الناس بأعيانهم بجنة أو نار، والاعتراف ببشريتنا وضعفنا وحاجتنا إليه-سبحانه- دائما، وهذا ما أكده القرآن في أكثر من مقام، يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
العذاب في النّار ثم دخول الجنة
يعتقد أغلب المسلمين أنّ العصاة ما داموا مسلمين موحدين يتعذبون بالنار جزاء معاصيهم ثم بعد ذلك يدخلون الجنة، وهذا معتقد كان شائعا عند بني إسرائيل، فكذبه القرآن، يقول تعالى حكاية عنهم: ﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وبعد أن بينات الآية الكريمة أن قولهم وإيمانهم بأن عذابهم في النار بسبب معاصيهم هو أيام معدودات، جاء الآيات التالية لتبين أنّ ثمّة عاقبتين فقط، فإما إلى نار، وإما إلى جنّة لا غير. وهناك ملحظ مهم في الآية، وهو أن دخول النار مرتبط بالأعمال السيئة والخطايا لا بالإيمان، حتى، والله أعلم، يُبعد الوهمَ عن أنّ العذاب المؤقت في النار سيكون على المعاصي، وأن الإيمان يكفي المرء لينتهي به إلى الجنة.
وبلا شكّ، أن هذا المعتقد الخطير هو السّبب الرئيس وراء فساد بني إسرائيل، فإنْ كان المآل في النهاية هو الجنة، فلا بأس أن نرتكب المعاصي والفواحش ونبيح هذا ونحرم ذاك، فلا ضير في ذلك ما دمنا مؤمنين موحدين، وهذا ما يفعله المسلمون الآن، مطمئنين أن الموضوع مجرد كلمات نقولها وتدخلنا الجنة، ثم يرون أحاديث تدعم ذلك، كما ورد في الحديث، "من كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخلَ الجنَّةَ"، وكيف ذلك؟! وآخر كلام فرعون هو كلمةُ التَّوحيد والإيمان بالله عز وجل: ﴿قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فضلا عن أنَّ الله عز وجل يقرر في كتابه العظيم في مئين وألوف الآيات أنَّ الحساب على العمل الصّادق، وأن الإنسان محاسبٌ على الذّرة ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾.
وثمة إشارة جميلة في قصة الخليقة، عندما سألت الملائكة على وجه الاعتراض أو على وجه الاستعلام والاستكشاف عن الحكمة في جعل الإنسان خليفة في الأرض، وهو القاتل السفّاك، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۖ﴾، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يستلزم عنها أن موضوع الخلافة ليس مرتبط بالتسبيح والتقديس، بل هو حرب دائمة وصراع مرير بين الخير والشر، كما يُستنتج من قصة الخليقة وامتناع إبليس عن السجود والوعد الذي قطعه لرب العالمين بأن يسعى في إضلال النّاس وإفسادهم وملء جهنم منهم، ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.
التحريم و التحليل من خارج التّوراة/ القرآن
من آفات بني إسرائيل أنهم كانوا يحللون ويحرمون من خارج التّوراة، ثم ينسبون هذا التحريم أو التحليل لله عزّ وجلّ، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾، ولبيان افتراهم وكذبهم في ما ينسبونه من تحليل وتحريم من خارج التوراة، يقول تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾، ولقد كان لبني إسرائيل تشريعا آخر غير التوراة يلتجئون إليه في مسائلهم الدينية والفقهية وهي ما تعرف بالمشناه والجمارا وهما المكوّنان الرئيسان للتلمود عند اليهود، وهما أقوال منقولة بالمشافهة عن سيدنا موسى-عليه السلام- وتفاسير الحاخامات للتوراة، وهي مقدسة عندهم كقدسيّة التّوراة بل أزيد عن ذلك.
واليهود يقولون: "إنّ من يقرأ التوراة بدون المشناه والجمارا فليس له إله"، ولعل هذا التلمود هو ما عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فاتبعوه وتركوا التوراة". ولا شكّ أنّ المسلمين قد نهجوا نهجهم في التّحليل والتّحريم، من خارج القرآن، بل زدنا عليهم بأن مزقنا العقيدة الواحدة إلى عقائد، بالرّجوع إلى أقوال الأئمة والعلماء والمفسرين والمحدّثين وآرائهم، المُغلَّفة، أغلبها، بأغلفة سياسيّة وفكريّة ومذهبيّة وطائفيّة، دون الاحتكام إلى قوله تعالى في كتابه العظيم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد