رغوة فحسب

mainThumb

22-01-2023 10:27 PM

لم يقل شيئا عند دخوله بينما كنت اشحذ موس الحلاقة بالمشحذ الجلدي. عندما أدركت من هو اخذت ارتجف لكنه لم يلحظ ذلك. واصلت شحذ الموس آملا ان اخفي انفعالي ثم جربت الموس على لحم ابهامي ثم رفعته امام الضوء . في تلك اللحظة خلع حزامه المرصع بالرصاص الذي تدلى منه قراب مسدسه وعلقه على كِلّاب الحائط ووضع قبعته العسكرية فوقه ثم استدار نحوي مرخيا عقدة ربطة عنقه وقال:" جهنم هنا، احلق لي لحيتي وجلس على الكرسي"
لقد قدّرت انه لم يحلق لحيته منذ أربعة أيام - المدة التي استغرقتها اخر حملة بحث عن قواتنا! بدى وجهه محمرا قد لوحته الشمس ، وأخذت في تحضير الصابون بعناية وقد أسقطت قليلا من الشرائح في كوب ومزجتها بقليل من الماء الساخن وبدأت تحريكها بالفرشاة فأخذت الرغوة في التشكل فورا . و قلت لنفسي :" لابد أن افراد فريقه الاخرين قد طالت لحاهم أيضا. " واصلت تحريك الرغوة .
قال:" أتدري ؟ لقد فعلنا الصواب، لقد عثرنا على العناصر الرئيسين وقد احضرنا بعضهم موتى والبعض الاخر أحياء ، لكنهم سيموتون قريبا جدا."
سألته:" كم شخصا امسكت؟"
أجاب:" اربع عشر ، كان علينا التوغل عميقا في الغابات للعثور عليهم . لكننا سوف نتساوى ، لن ينج احد منهم . لن ينج احد .
مال الى الخلف على الكرسي حين شاهدني حاملا بيدي الفرشاة مغطاة بالصابون. كان علي ان اضع الملاية عليه , لا شك في ذلك ، لكني كنت مضطربا فأخرجت ملاية من الدرج وربطتها حول عنق زبوني الذي استمر في الكلام فربما كان يظن انني متعاطف مع جماعته !
قال :" لابد ان البلدة قد تعلمت درسا مما فعلنا اول امس." اجبت : "بالتأكيد!" وقد احكمت عقدة الملاية على قاعدة رقبته السمراء التي كانت تتصبب عرقا .

قال :" لقد كان ذلك عرضا جيدا ،اليس كذلك؟"
اجبت " جيد جدا" واستدرت لجلب الفرشاة . اغلق الرجل عينية تلميحا انه كان تعبانا وجلس ينتظر لمسات الصابون البارد. لم يسبق لي ان اقتربت من ذاك الرجل قط. في اليوم الذي امر اهل البلدة الاجتماع في بهو المدرسة ليشاهدوا أربعة من الخارجين على القانون وقد تم تعليقهم على اعواد المشانق . في ذلك اليوم التقيت به وجها لوجه! لكن مشهد الجثث الأربعة المعلقة المشوهة ألهاني عن النظر الى وجه الرجل الذي امر بكل ما جرى , ذلك الوجه الذي سألمسه بيدي الان لم يكن الوجه غير لطيف بالتأكيد . واللحية التي جعلته يبدو أكبر سنا - تلك اللحية لم تجعله يبدو سيئا تماما! كان اسمه طورس . كابتن طورس.
كان مجنح الخيال ومن غيره يفكر في شنق المتمردين وهم عراة ثم يمارس التنشين على أعضاء محددة من أجسامهم ؟ أخذت اضع الطبقة الاولى من الصابون اغلق عينيه مواصلا القول :" دون بذل أي مجهود كان بوسعي ان اذهب للنوم مباشرة لكن لابد من فعل الكثير هذا المساء." توقفت عن وضع الصابون وسألته متظاهرا بشي من عدم الاهتمام:" تقصد فرقة اطلاق النار؟" أجاب :" شيء من هذا القبيل لكن بسرعة أٌقل " . واصلت وضع الصابون على لحيته . اخذت يداي ترتجفان مرة أخرى ،ربما لم يلحظ الرجل ذلك , و حبذّت ان لا يلحظ اضطرابي ، وكنت أتمنى انه لم يحضر ومن المحتمل ان عددا كبيرا من جماعتنا قد رأوه يدخل عندي فحين يكون عدوك تحت سقفك يترتب على ذلك ظروف معينة ! فقد تعين علي ان أحلق لحية ذلك العدو كما احلق لحية غيره من الزبائن ! حريصا كل الحرص الا اريق قطرة دم واحدة من البثور التي في وجهه وحرصت الا تؤدي خصلات الشعر في لحيته الى انحراف الموس عن مساره كنت حريصا على ان انهي الحلاقة ببشرة ناعمة نظيفة وانيقة خالية من الجروح! ثم مررت ظهر يدي على بشرته فلم اشعر بخشونة الشعر . نعم ، لقد كنت ثائرا سِريا لكني كنت حلاقا ذا ضمير وكنت فخورا بدقتي في انجاز عملي. ونمو شعر اللحية في أربعة أيام شكّل تحديا لائقا بي!
تناولت الموس وفتحت الذراعين الواقيين وابرزت حد الشفرة وشرعت في عملي. بادئا من احد سالفيه الى الأسفل - كان فعل الموس رائعا رغم ان لحيته لم تكن مرنة وكانت قاسية غير طويلة كثيرا لكنها كثة لكن حلقتها نتفة وراء نتفه فظهرت البشرة . اصدر الموس صوتا خشنا عند جز نتف الشعر واستمر الصوت الخشن عند امتزاج كتل الصابون ونتف الشعر على الشفرة , فتوقفت لحظة لتنظيف الشفرة وتناولت المشحذ لشحذ الموس مرة أخرى ، فعلت ذلك لأني حلاق فخور بعملي الدقيق! ابقى الرجل عينيه مغلقتين، لكنه فتحهما في تلك اللحظة، وابعد احد يديه من تحت الملاية! ولمس البقعة في وجهه التي ازيل عنها الصابون وقال:" تعال الى المدرسة اليوم الساعة السادسة ." فسالته :" الشيء ذاته كما حدث اول أمس؟" . أجاب :" ربما افضل!" ماذا نويت ان تفعل؟" اجاب لا ادري ، لكن سوف نمتع أنفسنا ." ثم مال الى الوراء واغلق عينيه."
اقتربت منه والموس متوازن في يدي وسألته :" " اتريد معاقبتهم جميعا؟" غامرت بهذا السؤال بشيء من الوجل. اجاب " جميعا" اخذ الصابون يجف على وجهه فاضطررت للإسراع . ونظرت نحو الشارع الذي يبدو في المرآه . كان الشارع في حالته المعتادة والبقالة فيها اثنان او ثلاثة زبائن . ثم القيت نظرة سريعة على ساعة الحائط : كانت الثانية والثلث بعد الظهر . ومضى الموس منحدرا في مساره والان من السالف الاخر نحو الأسفل ولحية كثة زرقاء فقد اطلق لحيته كما يفعل بعض الشعراء والخورة . كانت لحيته تليق به تماما ، ولم يميزه كثير من الناس واعتقد ان ذلك من صالحه الى درجة كبيرة . وحاولت ان اتي على منطقة عنقه برفق وكنت حريصا على التحكم بالموس فالشعر هناك رغم انه أنعم من شعر الوجه كان قد نمى في خصلات صغيرة ملتفة . كانت اللحية جعديه الشعر . وربما انفجر احد البثور قاذفا بما لديه من نقاط دم . والحلاق المعتز بنفسه مثلي ما كان ابدا ليسمح لشيء كهذا ان يحدث لأحد زبائنه . وكان هذا الزبون من الدرجة الأولى . فكم عدد الذين امر بأطلاق النار عليهم منا؟ وكم عدد الذين امر بالتمثيل بجثثهم ٍمنا؟
كان من الأفضل لي الا افكر في ذلك. فطورس لم يكن يعلم اني عدوه . لم يكن هو والاخرون من زمرته يعرف ذلك . لقد كان ذلك سرا لا يعرفه الا القليل جدا ، مما مكني ان اخبر الثائرين بدقة عما كان يخطط طورس ليفعله في البلدة وعن خططه في كل حملة يقوم بها لمطاردة المتمردين . لذلك كان الامر يزداد صعوبة امامي لتبرير خروجه سالما من بين يدي _ اذ كان بوسعي ذبحه لكني تركته يذهب حيا حالقا لحيته!
في تلك اللحظات كان حلق اللحية وشيك الانتهاء فبدى أصغر سنا يحمل فوق كاهليه عبئا اقل من الذي كان يرزح تحته عندما جاء الي ! وافترض ان ذلك يحدث لكل الرجال الذين يأتون لمحلات الحلاقة بفضل مسحات موسي كان يجري تجديد شباب طورس وذلك لأني حلاق جيد ، خير حلاق في البلدة ، ان جاز لي ان أقول ذلك! اضع مزيدا من قليل الصابون على دقنه وتفاحة ادم وعلى الوريد الكبير ، درجات الحرارة ترتفع بشكل عجيب ، غرق طورس في عرق كثيف وكذلك غرقت في العرق أيضا. لكن طورس كان هادئا لم يخش شيئا حتى انه لم يكن يفكر فيما سيفعل في الاسرى ذاك المساء! ومن ناحية، فقد كنت امرر الموس ذهابا وإيابا على بشرته حريصا الا يتدفق الدم من البثور . لم استطع التفكير بوضوح فقلت لعنه الله لأنه حضر الي. فانا ثائر لست جزارا . فقد كان من السهل القضاء عليه وهو يستحق القتل! اليس كذلك؟ لعن الله الشيطان فلا احد جدير بان يجعل شخصا أخر يضحي جاعلا نفسه قاتلا ، ما الذي سأجنيه من ذلك؟ لا شيء - يذهب هؤلاء ويبقى اخرون والأولون منهم يقتلون الاخرين وهكذا دواليك ويغرق كل شيء في بحر من الدم . كان بوسعي ان اقطع تلك الحنجرة بحزة واحده دون ان اتيح له وقتا كي يحتج على ذلك وبما ان عينيه مغلقتان فلن يرى بريق شفرة السكين او بريق عيني . انا ارتعش كقاتل حقيقي . فمن عنقه سيتدفق الدم على الملاية والكرسي وعلى يدي وعلى الارض وعليّ ان اغلق الباب لكن الدم يبقى متدفقا سائلا من تحت الباب الى الشارع متدفقا حارا بشكل غير معقول لا يمكن السيطرة عليه حتى يصل الشارع كجدول صغير قرمزي اللون , وانا متأكد ان ضربة واحدة- حزة عميقة واحدة ستمنع الألم فلن يعاني الما لكن ماذا افعل بالجثة ؟ اين اخفيها؟ وأين المفر مخلفا كل ما املك! والجأ الى مكان بعيد... بعيد جدا . لكنهم سيلاحقونني حتى يعثروا علي ." قاتل الكابتن طورس ... لقد قطع حنجرته وهو يحلق له! جبان ". وعلى الجانب الاخر " هذا من ثأر لنا جميعا -اسم خالد في التاريخ ( هنا سيذكرون اسمي ) لقد كان حلاق البلدة . لم يكن أحد يعرف انه يدافع عن قضيتنا. وفوق ذلك كله ، اهو قاتل ام بطل ؟ فمصيري معلق بحد هذه الشفرة بوسعي ان ادير يدي بسرعة اكثر واضغط على الموس بقوة اكثر قليلا ثم اجعلها تغوص في عنقه والبشرة ستفتح الطريق كالحرير كالمطاط كما فعلت كتلة الشعر او المشحذ . لا يوجد شيء اكثر رقة من بشرة الانسان والدم حاضر فيها دائما متأهبا للتدفق وشفرة كهذه لن تخيب أنها افضل ما لدي . لكن لا اريد ان أكون قاتلا . لا يا سيدي لقد حضرت اليّ لتحلق لحيتك وانا أقوم بعملي بشرف...,لا اريد تلطيخ يديّ بالدم . فقط رغوة صابون لا غير ذلك! هذا كل ما في الامر ، فانت جزار وانا مجرد حلاق وكل فرد له مكانه في هذ الكون اليس كذلك؟ لكل فرد مكانه الخاص به .
والان قد مسحت ذقنه نظيفا ناعما .اعتدل الرجل ونظر في المرآه ومرر يديه فوق بشرته وشعر بالانتعاش كانه شخص يولد من جديد!
قال شكرا واتجه الى حيث علق حزامه ومسدسه وقبعته . كان وجهي شاحبا، وقميصي ناقع عرقا .انهى طورس ربط حزامه وعدل مسدسه في حمالته بعد تنعيم شعره اتوماتيكيا وضع القبعة على راسه ومن جيب بنطاله اخرج عددا من القطع النقدية كي يدفعها مقابل خدمتي له .
واتجه نحو الباب وفي مدخل الباب توقف قليلا واستدار قائلا لي :
" لقد قيل لي انك ستقتلني . فأتيت كي اتحقق من صدق ما قالوا ، لكن القتل ليس سهلا ، بوسعك ان تصدق قولي ! وانطلق ماضيا في سبيله!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد