هل كان تشارلز دارون مسلما؟!

mainThumb

01-02-2023 11:46 PM

تُعدُّ نظريّة التّطور التي جاء بها عالم الأحياء الانجليزي تشارلز دارون من أكثر النّظريّات العلميّة جدلا ونقاشا وبحثا عبر التّاريخ كله، إذْ وظِّفت تلك النظريّة تقريبا في جميع العلوم والمعارف بدءا بالفلسفة والاجتماع وعلم النّفس وعلّم اللّغة وعلم الأديان وعلم الطّب وعلم الفيزياء والكيمياء والأحياء والأنثروبولوجيا وعلم السّياسة والأدب والتّربية والتّاريخ، لن تجد علما من العلوم والمعارف إلّا وتجد مبحثا مُتعلّقا بنظريّة التّطور، وبسبب هذا التّداخل المذهل للنظريّة في جميع المعارف فقد نَحَت مناحي متعددة خرج في أغلبها عن فكرتها الأصليّة القائمة على التّطور البيولوجي للأنواع، ومن ثمّ، فقد ظهرت النّظرية للمتلقي من زوايا متعددة غير صحيحةٍ من جهة، أو مُشوّهة من جهة أخرى، فتارة وظَّفها الملحد ليبرّر إلحاده، وتارة وظّفها السّياسيّ ليبرّر استبداده، وتارة وظّفها المؤرِّخ أو الاجتماعيّ ليبرّر عنصريّته، والنّظرية براء منهم جميعا.
فهي لا تدعوا للإلحاد ولا للاستبداد ولا للعنصريّات، بل هي نظريّة بيولوجيّة علميّة مثلها كمثل علم الوراثة أو علم الجينات أو علم الخليّة، وليس لها علاقة ألبتة بمسائل الدّين والفكر والفلسفة والتّاريخ والأعراق. ولا يُتعاطى معها علميّا باعتبارها حقيقة علمية قطعية، بل باعتبارها نظرية؛ أي أنّ أدلة إثباتها تَرْجَح على أدلة بطلانها.
لقد بدأت رحلة التّطور عند دارون من الرّحلة المعروفة برحلة البيجل، نسبةً إلى السّفينة الّتي انطلق دارون على مَتنها في رحلته الطّويلة حول العالَم. والّتي شملت مناطقَ في أمريكا الجنوبية ونيوزلندا وأستراليا، كان مقدَّرًا لهذه الرّحلة أنْ تستغرق عامَين، ولكنّها استمرت خمسةَ أعوام كاملة، حيث بدأت في ديسمبر ١٨٣١ وانتهت في أكتوبر ١٨٣٦. فمن أطراف أمريكا الجنوبية وجزر جالاباجوس إلى أستراليا وجزيرة تاهيتي، بدأ داروين دراسةَ الجيولوجيا، وانتهى به المطاف إلى معلوماتٍ من شأنها أنْ تقودَ إلى نظريّته عن التّطوُّر بالانتخاب الطّبيعي. تحتلُّ هذه الرّحلة مكانةً مميزة في تاريخ الاستكشاف العلميّ، جمع دارون خلال هذه الرّحلة عيّنات لا حصرَ لها من مُختلف النّباتات والحيوانات والصّخور والتّربة، من كلّ منطقةٍ نزل بها لدراستها، مستغلًّا معرفتَه الأولية بالجيولوجيا، من أجل عرضها على كبار الخبراء والعلماء، كما الْتَقى العديدَ من الأجناس البشرية، وقدَّم سردًا رائعًا لأصولهم وتقاليدهم وعاداتهم الغريبة.
ومنذ تاريخ تلك الرّحلة حتى وقتنا الرّاهن، لم أسمع، على الأقل، في تاريخ تلك الحقبة أنّ مسلما متخصّصا في علم الأحياء أو الجيولوجيا ساح أو سار في الأرض، في سهولها وجبالها وأنهارها وبحارها وغاباتها وصحاريها وأعماقها باحثا ومنقبا ومجتهدا وصابرا عملا بقوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، غير أنّ دارون فعل هذا وبكلّ أمانة علميّة، وكأنّه فهم قوله تعالى فهما دقيقا، وهو أنّ للخلق بداية، وبما أنّ الآية تحث النّاس على السّير في الأرض لمعرفة بداية الخلق، من نبات وحيوان وبشر وحجر، هذا يعني أنّ للخلق بداية يمكن لنا أنْ نكتشفها وندركها ونعرفها حقّ المعرفة، أيْ أنّها قابلة للفهم والإدراك، وهذا يعني أيضا أنّ بداية الخلق تكونت من الأرض وفي الأرض، وبما أنّ للخلق بداية هذا يعني أنّ الخلق كلّه _ ربّما_ خرج من أصل مشترك؛ أي له بداية واحدة.
إنّ فكرة الخَلق المباشر ليست عقيدة إيمانيّة، ولا تتعارض بالمرة مع الإيمان بالله عز وجل، أو الإيمان بقدرته وإرادته سبحانه، فلا يوجد في القرآن كلّه ولا في الأحاديث الشريفة دليلا صريحا واحدا على فكرة الخَلق المباشر، ولا يوجد تلميح أو إشارة على ذلك، إلا أنّ العكس هو ما يمكن أنْ يوجد كتلميح وربّما كتصريح كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾.
ومن الآيات التي قد نجد فيه تلميحا في تلكم القضية وهي من أكثر الآيات، من وجهة نظري، التي تتوافق مبدئيا مع نظريّة التّطور ونتائجها قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ وفي النّظر إلى تلكم الآية الكريمة نجد أنّ ثمّة تعالقا وترابطا بين خلق السّموات والأرض، من جهة، وخلق الحياة من جهة أخرى، وكما أنّ السّموات والأرض كانتا ملتصقتين لا فاصل بينهما، فلا مطر من السماء ولا نبات من الأرض، ففصلهما الله بقدرته، وأنزل المطر من السماء، وأخرج النّبات من الأرض، فإنّ خلق الحياة المتنوعة خَرجت من أصلٍ مشتركٍ وهو الماء.
فلقد كان يتوقع العديد من العلماء في خمسينيّات القرن العشرين، أنّ الحياةَ بدأت في المحيطات عبر فرضية تقول إنّ المواد الكيميائية التي أساسها الكربون تشكّلت على الأرض ثم ذابت في المحيطات مُشكلة ما يُسمى بـ"الحساء البدائي". وهذه الفكرة سادت بين المجتمع العلمي لعقود.
إلا أنّ تشارلز دارون كانت له وجهة نظر أخرى، فقد اقترح أنَّ أصل الحياة لم يبدأ في المحيط المفتوح، ولكن في مساحة أصغر من المياه كانت غنية بالمواد الكيميائية.
هذا القول يحمل في جوهره فكرة "الحساء البدائي" نفسها، إلا أنّ الفرق بينهما في نوع المسطح المائي، ففي الأولى محيط، وعند دارون بركة ماء، وذلك من خلال المواد الكيميائيّة المذابة بعدما يتبخر الماء في حرارة النهار؛ ليكون التّوليف الأوليّ للمواد الكيميائيّة التي شكّلت أصل الحياة مدعومًا بمزيجٍ من الضّوء والحَرارة والطّاقة الكيميائيّة.

ومن الآيات الدّالة على التّطور قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، وبيان تلك الأطوار قرآنيا أيضا، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، وهذا تلميح واضح على فكرة مراحل تطور الإنسان عضويّا، وأنّه لم يُخلق دفعةً واحدةً، وبصورة مباشرة، بوصفه نوعا إنسانيّا، قد يشير إلى فكرة مروره بمراحل أيضا حتى استوى على صورته المختارة من رب العالمين كإنسان مستو وفي أحسن تقويم؛ وذلك لأنّ قولَه تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ جاءت عامة غير مُخصّصة لمرحلة من مراحل تطور خلق الإنسان.
وثمّة عددٌ غير قليلٍ من آيات الخَلْق والجَعْل، التي تشير إلى وجود فترات زمنيّة بين مراحلة إيجاد الإنسان بفعل الإنشاء والتّقدير (خلق)، ومرحلة اكتماله واستوائه بفعل الصّيرورة (جعل)، إذ إنّ الفرقَ بين الخَلْق والجَعْل: أنّ الخلق يراد به الإيجاد من عدم، أي إيجاد المادة وقوانينها وآلية عملها في الخلق، وأنّ الجعل يُراد به الإبداع والتّصوير والتّشكّل الذي تحدثه القوانين في المادة عبر الزمن، وهي آيات تشير بطرف خفي إلى أنّ مرحلة زمنية تم فيها تطور خلقة الإنسان، التّطور الحاصل من شكل البنية الكلّية للإنسان إلى تشكّل تفاصيله وهيئته الرّاهنه، من وجه وعيون ولسان وشفتين وغير ذلك من تفاصيل شكّلت صورة الإنسان المعاصر، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ويقول أيضا: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ ويظهر من هذه الآية الكريمة أنّ هناك فترة زمنيّة بين الخلق والتّصوير واصطفاء آدم عليه السلام والسجود له، أيْ أنّ هذا الاصطفاء مرَّ بمراحل من التّطور من بداية خلقه حتى وصَلَ إلى صورته الّتي اختارها الله له بقدرته سبحانه وإرادته. والآيات في ذلك الشأن بالمئات، فهي تحتاج إلى وقفات طويلة لا يسمح بها المقام لإعادة النّظر في الفعل (خَلَق)، والفعل (جَعَل) الدّال على الصّيرورة والإرادة في تصيير الأشياء وتحولها من هيئة إلى هيئة، أو من شكلٍ إلى آخر. ولا بدَّ، أيضا، من إعادة النّظر في مفردتي (بَشَر) و(إنسان) في القرآن الكريم، فلقد جاءت كلمة بَشَر في القرآن في سياق الصّفات البيولوجية للإنسان، أيْ بوصفه كائنا حيوانيّا يأكل ويشرب ويجامع، وجاءت كلمة إنسان في سياق التّكليف والعقل والأخلاق، وفي ذلك إشارة –ربّما- إلى أنّهما نوعان مختلفان تطوَّر أحدهما عن الآخر؛ أيْ أنّه حَدثَ تحوّل من الكائن البشري غير المكتمل، إلى الكائن الإنسانيّ المكتمل والمُكَّلف، كما أشار إلى ذلك غير واحد من العلماء والمفكرين، أمثال عبد الصّبور شاهين في كتابه "أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة"، ومحمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن".
ولا شكَّ أنّ موضوع كرامة الإنسان ليس مرتبطا به كَبِنْيةٍ عضويّة أو بيولوجيّة، بل مرتبطا به كإنسانٍ بوصفه عاقلا واعيا مُكلَّفا، فيه من روح الله سبحانه، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِ﴾، فهذا هو التّكريم الّذي كرّمنا الله به وميّزنا وخصّنا به عن باقي مخلوقاته، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.
أمّا الإنسانُ البيولوجيّ فهو كائن حيوانيّ بامتياز يأكلُ ويشرب ويجامعُ، ومليء بالقاذورات من بول وغائط وعرق وريحة منتنة، لا فرق بينه وبين الحيوان من هذه النّاحيّة ألبتة، وإذا كانَ الإنسانُ البيولوجيّ لا يلتقي مع القرد أو الرئيسات أو أيّ حيوان في سلف مشترك، فإنّهما مشتركان بالمَادة نفسِها وهي التّراب. وليس التّراب الّذي يَطأه الإنسانُ بأقدامه ويبول عليه ويتغوط أكرمَ وأشرفَ من القرود أو أيّ حيوان آخر.
والسّؤال الّذي يطرح نفسَه الآن، هل الإنسان تطوّر، لو كان كذلك، بفعل النّواميس الطّبيعية الّتي خلقها الله، الخاضعة لإرادته سبحانه، أم أنّها تعمل بلا ضابط ربانيّ وإرادة إلهية؟ وهو نفسه السّؤال الّذي يمكن أنْ نطرحه على الطّائرة، فهل الطّائرة تطير بقوانين الفيزياء ونواميس الطّبيعة أم بإرادة الله وقدرته؟ وهل قولنا إنّ الإنسان صنع الطّائرة وصوّرها يتعارض مع قولنا إنّ الله خَلَق الطّائرة وأوجدها؟ والجواب باختصار أنّه لا تعارض بين عمل القوانين الطبيعية الّتي خلقها الله وهي المسؤولة عن تشكّل مادة الوجود على الصّور الّتي نراها في عالمنا وكوننا بإرادتها المسيّرة أحيانا، واللاواعية في أحايين أخرى، وبين إرادة الله سبحانه وتعالى، فهو خالق المادة وخالق قوانينها وهو الذي يحكم بما يريد وما يشاء، وما كان الله غافلا عن خلقه سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد