وكالات الأنباء العربية في مفترق طرق

mainThumb

13-03-2023 10:56 PM

في غمرة الانشغال بمستقبل وسائل الإعلام «التقليدية» العربية، ومحاولة إيجاد سبل عملية لضمان استدامتها، في ظل الضغوط المتصاعدة للبيئة الاتصالية العالمية التي تُقيد عالمها، وتُحد من فرصها، لم يلتفت كثيرون لإحدى أبرز تلك الوسائل وأكثرها تمتعاً بالثقة.
فقد غاب الحديث الأكاديمي والمهني والمجتمعي عن مناقشة أدوار وكالات الأنباء العربية ومستقبلها، أو تراجع إلى مستوى الندرة، بينما لا تتوقف النقاشات والندوات والدراسات عن مستقبل الصحيفة والمجلة والتلفزيون والإذاعة، والتحديات التي تواجهها.
تنشط في العالم العربي أكثر من عشرين وكالة أنباء محلية وإقليمية، يعمل بها آلاف الصحافيين والفنيين والإداريين، وتمتلك عشرات المكاتب ومئات المراسلين المنتشرين في أنحاء مختلفة من العالم، وتشترك في خدماتها المئات من وسائل الإعلام العربية والدولية، لكن ذلك لم يكن كافياً لكي تحظى باهتمام أكاديمي ومهني ومجتمعي كافٍ.
نشأت وكالات الأنباء العربية في منتصف القرن الماضي، بعد قرن تقريباً من نشوء وكالات الأنباء العالمية، لكن نشأتها لم تكن على أسس مهنية تتوخّى الجدوى الاقتصادية كغيرها من الوكالات الكبرى؛ بل ظهرت كأحد استحقاقات السيادة، ولتأدية دور جوهري مُحدد يتلخص في نقل الخطاب الرسمي إلى الجمهور في الداخل والخارج.
كانت وكالات الأنباء العربية، منذ نشأت وحتى الآن، صوت الدولة بامتياز؛ ففيها نقرأ المراسيم الرسمية والقرارات السيادية والمواقف الحكومية، حتى ساد الانطباع بأن ما لم يُنشر في الوكالة الرسمية «لم يحدث»، حتى وإن حدث ونُشر في مختلف وسائل الإعلام الأخرى.
بسبب تلك الطبيعة الرسمية، تمتعت وكالات الأنباء العربية باعتبار ووجاهة، وحظيت بثقة الجمهور فيما يصدر عنها، باعتباره «رأي الدولة وموقفها وخطابها المؤسسي»، لكنها مع ذلك فقدت النزعة التنافسية بذريعة دورها الحصري، وغاب عنها التنوع والتعدد لانشغالها بدور الناقل الرسمي للأخبار، وضعف ميلها للتطوير، بسبب عدم قابليتها للإفلاس الذي يضمنه التمويل الحكومي الدائم. وبموازاة ذلك، كانت أدوار وكالات الأنباء العالمية تتطور، وإمكانياتها تتسع، وأسواقها تزدهر. وبعدما أتقنت تسخير التطورات التكنولوجية والاتصالية لخدمة مسارات عملها، تحوّلت إلى منظمات إعلامية - اقتصادية ضخمة، فأسست شركات في قطاعات الإعلام وغيرها، وطورت مراكز أبحاث، وآليات لاستطلاع الرأي وإجراء المسوح، وأطلقت أذرعاً للبحث والتطوير والتدريب، ومؤشرات مُعتبرة لقياس الأداء الاقتصادي ومتابعة تعاملات أسواق المال. وظل تعبير «الخمسة الكبار»، أو «الأربعة الكبار»، رائجاً وذا دلالة؛ إذ يشير إلى خمس أو أربع وكالات أنباء كبرى تهيمن على التدفق الإخباري العالمي، وتحظى بنسبة 70 في المائة من حجم الأخبار الخارجية المنشورة في وسائل الإعلام حول العالم، الأمر الذي يُمكّنها من ترويج المفاهيم، وصناعة الصور الذهنية، وتأطير الفهم الدولي للشؤون العامة، حسب منطق القائمين عليها، ومن المنظور الذي يرونه مناسباً.
في المقابل، ظلت وكالات الأنباء العربية، أو معظمها، عند لحظة البداية، مُخلصة للمفهوم الأولي الذي صاغ دورها التاريخي، باعتبارها «أجهزة مركزية لجمع الأخبار وتوزيعها داخل الدولة وخارجها، تستهدف نقل أخبار الدولة التي تنطلق منها وقراراتها الرسمية».
ومع الانشغال بهذا الدور، الذي لا جدال في أهميته، لم تلتفت هذه الوكالات المحلية إلى التغيّر الفارق الذي طرأ على آليات الاتصال الحكومي. وهو التغير الذي جعل أخبار تشكيل الحكومة في إحدى الدول العربية، أو الإعلان عن اتفاق ثنائي حيوي بين دولتين، أو وفاة شخصية سياسية رفيعة، تُعلن عبر وسائل «التواصل الاجتماعي» قبل أن تنشره الوكالة الرسمية.
لقد أدت التحولات الاتصالية العالمية إلى أن تصبح وسائل «التواصل الاجتماعي» خيار المؤسسات الحكومية والمسؤولين السياسيين الأول لإعلان الأخبار الرسمية، وهو أمر قلّص بصورة مباشرة أهمية وكالات الأنباء العربية، بل وألقى بظلال قاتمة على مستقبلها.
ستكون الفرصة سانحة أمام وكالات الأنباء العربية لكي تستعيد أهميتها وألقها وجدوى تشغيلها، إلا أن ذلك لن يحدث من خلال الدور الحصري الذي انتُدبت له عند إنشائها، بل سيتحقق من خلال عملية تطوير حتمية يجب أن تخضع لها.
على تلك الوكالات أن تتحول إلى مؤسسات إعلامية أكثر مرونة وقدرة على مجاراة التطورات الاتصالية العالمية الأخيرة؛ ومن ذلك أن تخرج من دورها المحدود إلى آفاق مهنية أوسع، تعمل فيها على أسس أكثر اقتصادية، وتنوع خدماتها، وتعمق اعتمادها على التكنولوجيا، وتبحث عن «زبائن» جدد لمنتجاتها، وتعمد إلى رفد أعمالها بقيمة صحافية مضافة تعزز قدرتها التنافسية.
ما زال بوسع وكالات الأنباء العربية أن تحافظ على إرث علاماتها التجارية ومكانتها في المنظومات الصحافية الوطنية، وأن تجدد فرصها في البقاء، لكن ذلك يستلزم تطوير مفهومها لدورها، وتغيير نمط خدمتها بما يناسب الأوضاع الجديدة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد