في مفهوم الصدمة وما سيتبعها من صدمات!

mainThumb

26-12-2023 10:08 AM

ككثيرين غيري، كنتُ، وما زلتُ على قناعةٍ بأنّ المجتمع الإسرائيلي يحتاج إلى صدمةٍ كبيرة، وربّما إلى عدّة صدمات مماثلة لكي يصحو من أوهامه وأحلامه، وأنّ مثل هذه الصدمات هي التي ستفتح أمام هذا المجتمع الطريق السالكة الوحيدة لإعادة التفكير في مخاوفه وهواجسه، وتطلُّعاته، أيضاً، على أُسسٍ عقلانية وواقعية.
كلّ الطرق الأخرى باتت مغلقة، بدليل أنّ هذا المجتمع الإسرائيلي «نام» لعقودٍ طويلة على وسادته «النّاعمة»، مطمئناً، إلى أنّ قوة جيشه كفيلة بتحقيق «الأحلام» كلّها، وظلّ ينزع نحو مزيدٍ من التطرُّف والعنصرية بقدر ما كان للتطرُّف والعنصرية من تجسيدات حسّية في حقن هذه القوة «للمنعة الوطنية»، وفي حقن المجتمع بمدلولات حسّية مقابلة نحو مزيدٍ من التطرُّف، ومزيدٍ من العنصرية.
أقصد أنّ هذا المجتمع لم يدخل في مسارٍ لتغيير نظرته إلّا في حالتين اثنتين فقط:
الحالة الأولى، هي حرب حزيران، وما نتج عنها من مشاعر جيّاشة للقوّة والمنَعَة في آنٍ معاً، وبذلك غادر «المجتمع» الإسرائيلي، إلى غير رجعةٍ آنذاك مساحة التوق إلى «السلام» ليدخل في مرحلة فرض «السلام»، ومن هناك انطلق قطار «اليمين القديم»، وأصبح يُنزل في بعض المحطّات، بعض القوى والفئات، ليحمل منها ومن غيرها من المحطّات قوى جديدة، وفئات جديدة، وانتقل الجدل السياسي في كلّ المجتمع الإسرائيلي من مفهوم «السلام» الذي يمكن مقايضته بـ»الأرض»، أو بعضها، وبشروط «أمنية» كاملة، إلى مفهوم «السلام» الذي يمكن مقايضته بـ»السلام» فقط، وبشروط اقتصادية واجتماعية، وتدابير «أمنية» وليس بـ»الأرض» مطلقاً، وكانت هذه هي الحالة الثانية التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973، ثم صعود «اليمين» في العام 1977، ثم دخول إسرائيل في مُنعرج العقد الثامن من القرن الماضي بصراعٍ داخلي على مفهوم «الأرض والسلام» إلى أن وصلنا إلى هزيمة مفهوم «الأرض مقابل السلام»، وفوز مفهوم «السلام مقابل السلام» بعد إعادة صعود «اليمين الجديد والمتجدّد» في العقدين الأخيرين بعد إنهاء وإنهاك قوى «اليسار»، وبعد تدجين كامل قوى «الوسط» و»المركز» لصالح هذا المفهوم.
باختصار، فإنّ بعض الصدمات التي عانى منها المجتمع الإسرائيلي كانت تمثّل حالة «قلق» معيّن، وكان هذا القلق كبيراً في بعض المحطّات والمراحل والأحداث، مثل حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973، والانتفاضة الوطنية الفلسطينية الكبرى 1987، والاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، وكذلك الحرب على لبنان 2006، وغيرها.
نعم كانت بعض موجات القلق تجتاح الشارع الإسرائيلي لكنّه لم يشعر أبداً بالصدمة التي تجتاحه الآن.
وحتى «أزمة القضاء» والانقسامات الحادّة التي أحدثتها في بنية المجتمع والدولة والجيش، ومجمل النظام السياسي في إسرائيل، وما مثّلته من أخطار وجوديّة، ومن تهديدات خطيرة للأمن الاجتماعي والقومي فيها، لم يحاول ولا حتى الاقتراب من مسألة الصراع مع الشعب الفلسطيني حتى يقترب من مفهومي «الأرض والسلام» في هذا الصراع.
أي أنّ المجتمع الإسرائيلي الذي انقسم وانشطر، أيضاً، في غالبيته الساحقة لم يلتفت حتى للصراع، ولم يرَ أيّ علاقة مباشرة، ولا حتى غير مباشرة بين هذا الانقسام وبين الصراع مع الشعب الفلسطيني، أو الصراع ضدّ الشعب الفلسطيني، ونظر إلى الأزمة الداخلية كتهديد داخلي صرف، أو كحالة صراع داخلي، حالة خطرة، ومصيرية، ووجودية، لكنها معزولة بالكامل عن الصراع «الخارجي».
لعلّ أهمّ مقوّمات «ومنوّمات» المجتمع الإسرائيلي كان مسألة «التطبيع» و»قرب» الوصول في هذا «التطبيع» إلى «القمّة» التي سعت الولايات المتحدة بكلّ «صبرٍ وأناة» الوصول إليها بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، اعتقاداً منها ـــ أي الولايات المتحدة ـــ أنّ الإقليم في حالة نجاح «التطبيع» سيستقرّ بصورةٍ «معقولة ومقبولة»، وستقتنع إسرائيل بتقديم بعض «التنازلات» للفلسطينيين، بشرط أن لا تصل مطلقاً إلى الدولة، وستتمكن العربية السعودية من المساعدة في ضبط الإقليم و»ازدهاره» وتحويل مسار تطوّره نحو الوجهة التنموية الجديدة.
وكان من شأن مثل هذا النجاح، أن يعطي للولايات المتحدة فرصة تحتاجها على وجه السرعة والضرورة لقطع الطريق على الصين، من خلال «الممرّ الهندي»، ولوقف النزف «الغربي» في الحرب الأوكرانية.
وكان من شأن مثل هذا النجاح، أيضاً، أن يؤمّن نجاح جو بايدن وحزبه الديمقراطي في الانتخابات، وقطع الطريق نهائياً على دونالد ترامب وحزبه الجمهوري، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة في شخص بايدن كانت، وما زالت على قناعةٍ بأنّ عودة ترامب سيكون من نتائجها المباشرة إنهاء الحرب في أوكرانيا لمصلحة روسيا.
وهكذا كان المجتمع الإسرائيلي مطمئناً إلى قوّة جيشه، وإلى قدرته في فرض الوقائع، أو درءِ أيّ تهديد، ومطمئناً إلى هوان الحالة العربية، وإلى قوّة الدفع في مسألة «التطبيع»، وإلى هشاشةٍ غير مسبوقة في الحالة الفلسطينية، وإلى انقسام فلسطيني مدمّر، وإلى «حقوق» فلسطينية حُسمت باتجاه «الاحتياجات المعيشية» التي تتحكم فيها مفاتيح الضبط والتحكُّم الإسرائيلي، وقبول عربي و»غربي» بتحويل هذه الحقوق عملياً إلى دائرة «الاحتياجات».
وأصبح من المقبول والمعقول، أيضاً، من وجهة نظر المجتمع الإسرائيلي الانتقال مباشرةً إلى «حسم الصراع» وإنهاء هذا الصراع باستكمال تصفية هذه الحقوق.
في ظلّ كلّ هذه الأجواء، وفي ظلّ هذا «الاطمئنان»، و»النوم في العسل»، وفي ظلّ اليقين «الجمعي» الإسرائيلي بأنّ أزمة إسرائيل الأولى والأخيرة هي أزمة داخلية جاء الـ 7 من أكتوبر/ تشرين الأوّل، ويا لهول ما جاء.
دفعةً واحدة طار كلّ شيء في غضون ساعات، واستيقظ المجتمع الإسرائيلي على جيشٍ ينهار، وعلى ردعٍ لم يعد له وجود، وعلى انهيار الأمن وكل أجهزة الرصد والمراقبة، وعلى اجتياحٍ لـ»الغلاف» بعمق عشرات الكيلومترات.
صدمة مروّعة أصابت المجتمع الإسرائيلي بالذهول الكامل، ووضعت القيادات الإسرائيلية كلّها أمام خيارات عاجلة لأعلى درجات الإجرام والانتقام، وأمام حرب إبادةٍ شاملة، واستلّت هذه القيادات كل المخطّطات المعدّة مسبقاً من جوارير التخطيط الأمنية، وباشرت بالحرب التي ليس لها أيّ ضوابط أو قيود، أو أيّ خطوط حمراء ومن دون أيّ ترددٍ أو تفكير.
ما زال المجتمع الإسرائيلي مصدوماً، وقد يزداد تطرُّفاً، وقد لا يجد الآن سوى مشاعر الانتقام، وليس لديه فرصة التفكير بما جرى لإسرائيل، لأنّه وللمرّة الأولى في تاريخه يُصدم بهذه الصورة، وللمرّة الأولى في تاريخ الصراع يشعر بسقوطٍ كامل لكل عناصر اليقين، والمَنَعة، وقوّة الجيش، وقوّة الردع، وهو للمرّة الأولى يقف أمام وقائع لم يكن يتصوّر مطلقاً أنّه سيقف أمامها في أيّ يومٍ من الأيام.
المجتمع الإسرائيلي الآن يرى في الإبادة الجماعية فرصته «النفسية»، لاستعادة «الوعي» والرجوع إلى اليقين الذي طار أمامه، وفرصته لترميم قناعاته، وإعادة الاعتبار لشعوره بالتفوُّق والقدرة، ودرءِ الضغوط التي تأخذه نحو الشكّ في كلّ شيء، والارتياب من المستقبل، والخوف الشديد من أحداث الحاضر.
ما نشهده اليوم ليس نتائج الصدمة، وإنّما ردّة الفعل الأوّلية عليها، لأنّ تفاعلات الصدمة هي ما تتركه من تأثيراتٍ على الوعي، وليس على المشاعر المباشرة.
والصدمات القادمة، وخصوصاً عندما تنهار صورة الانتصار «المنتظر» ستكون هي الأكبر والأهمّ، لأنّ المجتمع الإسرائيلي سينتقل إلى مرحلة «الاكتشاف»، وإلى مرحلة انهيار صورة «الإبادة»، التي لم تكن سوى أحد أشكال تزييف المشاعر، واستبدال اليقين السابق بها.
وفي مرحلة الاكتشاف سيفهم المجتمع الإسرائيلي أنّ قوّة الردع الوحيدة لدى إسرائيل وجيشها وأذرعها الأمنية هي القتل والإبادة والإجرام.
هل لاحظتم أنّ بنيامين نتنياهو وطواقمه يتحدّثون عن حروب عسكرية؟ إنّهم في الواقع يهدّدون بالدمار والقتل والعصور الحجرية، لأنّ الجيش لم يعد صالحاً للقتال إلّا في ظروف هذا التدمير وبوساطته، فهل تستطيع استراتيجية التهديد بالتدمير والإبادة أن تحافظ على دولة يحيط بها مئات آلاف المقاتلين من النوع الذي أحدث الصدمة في الـ 7 من أكتوبر/ تشرين الأوّل؟.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد