في قلب المأساة وعلى هامشها .. !

mainThumb

29-12-2023 12:04 PM

سيكون التاريخ متواضعاً أو متواطئاً إذا ما سمّى ما يحدث في قطاع غزة بالحرب، فما يجري تجريف للتاريخ نفسه في هذه المنطقة الصعيرة، كان أول ما صدر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي لحظة أفلت لسانه في البدايات، قبل أن يراجع مستشاريه لترتيب الكلمات أمام الإعلام مطالباً سكان غزة بالخروج من بيوتهم، وحين لم يخرجوا كانت الطائرات تحرث غزة لإخراجهم بالقوة.
كل شيء أصبح خراباً في غزة، لماذا تم قصف الجامعات والمستشفيات وآبار المياه والمدارس والبيوت وكل شيء؟ الجواب ببساطة حتى يدرك من تبقى من السكان ممن تجاوزهم الموت أنه لا يمكن العيش في صحراء خربة، كان هذا يتم أمام أعينهم مع دفعهم باتجاه رفح أقصى جنوب القطاع على الحدود المصرية مترافقاً مع مفاوضات وجس نبض مصري للموافقة على استقبال الهاربين، وحين لم يتحقق ذلك عاد نتنياهو للحديث في اجتماع مغلق لأعضاء حزب الليكود عن رحيل طوعي بقيت عقبته الدول التي ستستقبل الغزيين.
تتضح أكثر مهمة الحرب وهدفها وتتضح أكثر نتائجها المبكرة بتدمير أكثر من 80% من بيوتها سواء كلياً أو جزئياً كلاهما تم إعدامه وتحول إلى ركام سواء كله أو أجزاء لا تصلح للسكن، وحين يفقد الإنسان البيت والعائلة تحت ركامه وتتحول ذكرياته إلى كوابيس في المكان وحين لا يجد الحد الأدنى للعيش، فإن الرحيل يصبح الخيار الوحيد الذي يبقى هذا ما تعمل عليه اسرائيل وتدفع نحوه بقوة النار الهائلة التي تصبها في غزة وتحرق ما تبقى من حياة، هذا لا يحتاج إلى تفسير لدول تمتهن قيادتها العمل السياسي، فالأمر أبعد من حرب ضد حركة حماس، هي فرصة توفرت ولن تتكرر لاقتلاع غزة من جذورها مرة وإلى الأبد.
مشكوك بأن يكون مراحل لهذه الحرب كما تنشر وسائل الإعلام نقلاً عما يتساقط من الصحافة الإسرائيلية، ومشكوك بأن إسرائيل تتعجل وقفاً لإطلاق النار ونهاية هذه الحرب هذا ما كشفه موقع «واي نت» العبري أول من أمس، بأن الحديث عن المرحلة الثانية والثالثة هو نوع من «إسكات الأميركيين»، ولكن الحقيقة أن اسرائيل تتحدث عن مرحلتين مختلفتين تماماً للحرب بلا سقوف زمنية، مرحلة فوق الأرض ومرحلة تحت الأرض، تنتقل لها بعد أن تكون قد أنهت المعارك فوق الأرض، كل ذلك دون تحديد جداول زمنية، أما مرحلة تحت الارض وتقصد حرب الأنفاق، صحيح أن الطائرات الحربية ستتوقف خلالها عن القصف، لكن الحديث يدور عن سقف مفتوح يشبه إعادة احتلال القطاع والسيطرة عليه.
هذه الخطة بالتأكيد بلا نهاية، ولكن خطورتها تكمن في استمرار إنهاك سكان القطاع معدومي الحياة وبلا بيوت وبلا إعمار، بحجة قتال حركة حماس الدائم وبلا مدارس وبلا جامعات ولا خطوط كهرباء ولا خطوط مياه، ينقلون الماء بالعبوات، ولا مستقبل دراسي للأولاد بعد أن فقدوا جزءاً منهم أو كلهم، وذكريات شديدة الوجع أي زيادة جرعة الجحيم على غزة. هكذا تكون الحياة مجرد إمعان في إعدامها لما تبقى من شعب حكمت عليه الحياة والاحتلال وانعدام كفاءة من تحملوا مسؤوليته بالإعدام بكل الطرق السريعة منها والبطيئة.
زخم الحرب يتراجع بزيادة الضغط الداخلي على النظم السياسية في العالم التي بدأت تطالب بإيجاد مخرج أو حل لوقف إطلاق النار، يشكل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نموذجاً للقياس الدولي بعد انتقاله من مربع الدافع نحو مربع الكابح، يترافق ذلك مع عدم قدرة اسرائيل على حسم حربها وزيادة عدد القتلى في صفوف الجيش وعدم تحييد المدنيين، وهو الامر الذي بات يحرج العالم أكثر، يقابله تجاهل اسرائيلي لأي نداء طبعاً كل تلك النداءات الخافتة لا توقف حرباً، لكن كل ذلك سيدفع اسرائيل للعمل على استمرار مشروعها بغض النظر عما يحدث عالمياً، لإدراكها أن سكان قطاع غزة لا يساوون جناح بعوضة بالنسبة للعالم وللعرب.. والمسلمين أيضاً، العالم سارع لتشكيل تحالف لحماية سفن البحر الأحمر، لكنه لم يسارع لوقف الدم في غزة، فالنفط في الأعراف الدولية أغلى من الدم، تلك هي الحقيقة.
بتجربة التاريخ وفي مناخات التواطؤ الدولي تمكنت اسرائيل من تمرير الكثير من مشاريعها... هذا يخيف، ومثال على ذلك قدرتها الكبيرة على تدمير حل الدولتين رغماً عن العالم الذي يريد، ونشر المستوطنات رغماً عن العالم ومجلس أمنه ...ولكن أيضا سقطت كثير من المشاريع بفضل صمود وإرادة الشعب الفلسطيني ...هذه المرة وما حدث في غزة أنهك المنطقة التي تعتبر دفيئة الإرادة حد التعب، هناك خشية من قدرة إسرائيل على استكمال إبادة غزة التي شكلت صداعاً للجميع.. لإسرائيل وللغرب ... وللعرب أيضاً، في كل مرة تضع الجميع أمام اختبار الأخلاق ...فيرسبون.. ففي الخلاص من غزة ما يُعفي من مشهد الرسوب المتكرر.
الصورة الأخيرة في الألبوم التي ينغلق عليها المشهد الحزين، ياسمين يوسف ابنة السابعة والعشرين... صورة هوية على جسد مسجّى، في الصورة اسم والدتها اسمهان، ما أجمل الأسماء ... بالتأكيد كان لياسمين حلم أن تعيش كباقي النساء وبعالم غير هذا العالم... إعلان عن جثة ضائعة تبحث عن صاحبها أو أصحابها... أرأيتم قهراً أكبر من هذا يكثف حزن البشرية؟ يا إلهي...!

 

(الأيام الفلسطينية)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد