الحضارة: الأسطورة والقَتل، النبيُّ والسِّلاح .. و«كياسة القيادة»

الحضارة: الأسطورة والقَتل، النبيُّ والسِّلاح ..  و«كياسة القيادة»

05-01-2024 07:15 PM

 

إلى الفلسطينيّ الملهم الراحل بِوداعة: د. عودة عودة: "عبثًا يحاولونَ التَّطَهُّرَ بتلطيخ نفوسهم بالدم، شأنَ مَن يريد بعد التمرُّغ في الوحل، أن ينظِّف نفسَه بالوحل. يا لحماقة مَن يقومُ بمثل هذه الأعمال في عين مَن يراه! إنَّ حالَ مَن يرفع صلواته إلى مثل هذه التّصاوير الإلهيّة، هي كحالِ مَن يكلِّمُ الجدران، من دون أنْ يسعى إلى معرفة طبيعة الآلهةِ والأبطال".

في علاميّة/ سيمائيّة الأسطورة والتراجيديا وتناوبِهِما، يُصوِّرُ الشاعِرُ الباكي: "هيراقليطس"، التداخلَ والتمازج في دمويّة الطقوس بينَ الجريمة والفِداء، وذلكَ البُعْد الارْتِعاشيِّ الاحتداميّ للذبائِح، في تناوُبٍ كوميديّ/ تراجيديّ بين الأبطال والآلهة وفي استشرافٍ لطبيعتهما غير القابلة للتعريفِ والإبهام أيضًا. وكانَ "المَعَرّي" العَربيّ قد أكّد اللاجدوى بينَهُما (...).

 

الحضارة: من الانعزاليّةِ المكانية إلى الانتشارِ التّخييلي!

 لم تكُن المفرداتُ التي تكرَّرت على لسانِ " نتياهو"/ (عطيّة الله) حولَ تحالُفِ العالم المتحضِّر، صدفةً أو اعتذارًا أخلاقيًا في مواجهة الفلسطينيين. بل هيَ بعكس ذلك؛ تؤكّد انتماءها لذاتها دون أي تأويل، في إنتاجٍ كوميديٍّ لتناوب الأسطوريّ السحريّ الهَلْوسيِّ، مع العقليّ والعمليّ والتّقْنِيّ، بتعبيرِ صاحبِ الفكر المركّب: ميثوس/ لوغوس، أسطوريّ/ عقليّ.

لم تكُنْ اشتقاقات التحضُّرِ فضيلةً في ذاتِها كموضوع، بِقَدْر ما كانت تفوّقًا للذواتِ التي صاغَتْها، بصفتهم أسطوريينَ وعقلانيينَ في اللحظةِ نفسِها. فقد تحمّلت خاصيّتا الانعزاليّة والانتشار، المكانَ واللغةَ بهذه التصوراتِ على شكلِ ارتشافٍ طبيعيّ وثقافيّ للتاريخ الأوروبيِّ المُناظِرِ للأسطورةِ الأوربية؛ كانتْ المدينةُ، أثينا، المحاطة بانعزاليّة الأسوار مكانًا متحضّرًا وجغرافيا نقيّةً متعاليةً، (سيُحلِّل سعيد ذلك لاحقًا)، ولأنّ السورَ علامةُ فصلٍ يحد اتجاهين جغرافيين، كانَ مَن هُم خارجَ السورِ "هَمَجِيين"، في حينِ كان التّحضُّرُ سِمَةَ الانعزاليّة والطبيعية والعرقية في آنٍ معًا. ولم تكُنْ فكرة السّور الواقي ولا الجدار الفاصِلِ بعيدةً عن هذه التفسيرات!؛ السورُ الواقي لسحقِ الفلسطينيّ والجدار الفاصل لتأكيدِ صفةِ التّفوق!.

... على سبيل أنظمة التمثيل وبناء الاستعاراتِ الأسطورية الأولى، كان "هوميرس" يؤسِّسُ تاريخيَّتَهُ الطبيعية باستعاراتِ الأبطال والآلهة؛ فَهَمَجيٌ كلُّ مَن يتكلَّمُ البربرية، أو بالأحرى مَن لا يتكلَّمُ اليونانيّة، وهو تعالٍ مُزدوج: تعالٍ باللغةِ وفي اللّغة. في تأسيسٍ سيكونُ فيما بعد بثنائيّةِ اللّغة - الدّين. وفي الحروب الفارسيّة اليونانيّة تأكدت الثنائية، وأعطت مظهرًا متحضِّرًا لكلّ ما هو يونانيّ، ومظهرًا همجيًا لكلّ ما هو فارسيّ، بدايةً من الجغرافيا، وليسَ انتهاء بالآلهة والأبطال.

 

من انعزاليّة الحُدود إلى رحابة الاكتشافات!

 لم تكُنْ العلومُ الاجتماعيّة، كتمثيلٍ رمزيّ لعقلِ المتحضِّرِ، طفرةً؛ فأمام الانعزال المتحضِّر هناك َالانتشارُ الأكثرُ تحضرًا، هذا الانتشارُ الاختِراقيّ لاكتشافِ جغرافيات جديدة: "كولومبوس" لجزر الهاييتي وليس بعيدًا عن اكتشاف أمريكا. لقد أعاد التنوير مرة أخرى التناسخ بين الهمجيّ والمتحضّر، وِفقَ صيغةٍ جديدة؛ كونه أفقًا للاختراق والاكتشاف، فالموحش الطبيعيّ هو المتوحش الثقافي، وبالتالي: الحضارةُ هي القدرة على امتلاكِ عقل الاكتشاف ومن ثم أدواته واختراعاته.

لم يكن كتاب "صديق الإنسان"، للكاتب "زيكوتي" المنظّر للثورة الفرنسيّة، التناسُخَ الوحيدَ لإنتاج حضارةِ وتحضُّر "هوميروس"، وفق انتشارٍ جديدٍ يُعيد استنساخ الدينيّ في مقابل اللغويّ فقد كانت المسيحية هنا تحضّرًا في مواجهة أنانيّة الإنسان وترفه، ولا يعدم هذا التعالي الدينيّ افتراضًا يحضّر المتوحش هنا على شكلِ دين، مزيف، خارج السور أو كشيءٍ غير غربي، وهو الإسلام هنا بعد سقوط القسطنطينية عام 1453.

في مقابلِ السّور كعلامةِ انعزال يضمَنُ النقاءَ والاستغراقَ في التحضُّر، كانتْ السفينةُ كاختراعٍ يحاصرُ البحر ويكتشفُ أسواره وصولًا إلى عوالمَ جديدةٍ تنتظر التفتّح والانكشاف بعقل متحضِّر، كانتْ السفينة هنا "دينًا" جديدًا يشبه معجزة القيامة التي ينتظِرُها الهمجيون لتعيد تعريفَهم، فكانت أوروبا هي أيضًا "سفينة الرَّبِّ المختارة".. لم يكُن "سيفُ الله المسلول" اختراعًا إسلاميًا!!

كانَ الرّحالة آلهةً جدد، وكانت الاكتشافات معجزةَ أوروبا المتحضّرة التي تعيد إنتاج الطبيعة واللّغة، وكان اكتشافُ السلاحِ واختراعه تفجُّرَ الحضارة الأكبر؛ باعتباره معجزةً وإلهًا أرضيًا، لا يقلُّ خطورةً عن تأسيس المعرفة الاجتماعية التنويرية التي لا تُعرِّفُ نفسَها إلا باستحضارِ الظلام، فتفوُّقُ أنظمةِ التحليل والتجريد والتمثيل الأوروبية  (والأمريكيّة فيما بعد)، لا يقلُّ أهميةً عن تفوق الأسلحة الفتاكة والآلة البخاريّة لاحقًا.

تعاد أنظمة التمثيل الآن إلى تناسُخٍ جديد؛ فالمتحضِّر هو المكتشِف، والهمجيّ البربريّ هو المكتشَف، وكانَ الرّحالةُ هنا، أنبياءَ السّلاح المؤجّل الذين يرحلون ليبحثوا عمّا في عقولهم في الأمكنة، حيث يصادرُ التّخييلي الطبيعيّ والتأويلُ الأصليّ، لم تكن رحلة الشاعر الفرنسي "شاتوبريان" إلى فلسطين والقدس في القرن التاسع عشر حيث البحث عن العرق البدائيّ، رغم كلّ صور اللّطف والحضارة التي ساقَها، كانت في النهاية: الرّحالةُ المتحضِّرُ في اللغة والدين والسلاح في مقابل الهمجيين في كل ذلكَ حتّى "الأسنان"!

لقد تم حشدُ كلّ الأساطير التي تؤكِّدُ تفرد أوروبا "المجموعة الداخلة" في مواجهة "المجموعة الخارِجة" في علاقتينِ لا ثالثَ لهما، هما: الغَزو أو الحصار!. لقد استدعى الأسطوريُّ التّقنيَّ بشكل جديد، تم استبدالُ كلّ ذلك معًا، من أسطورة بابل إلى صموئيل والتيه والعجل بشكلٍ تراجيدي، كيفَ سيحدُثُ ذلك أوروبيا ويهوديًا، وكيف يصبح اكتشافُ السلاح حضارةً أو تناسخًا جديدًا للتحضُّر، هكذا سيصبح الاستعمارُ ايدولوجيّةً حضاريةً، من القدرةِ على الاكتشافاتِ إلى ضرورةِ القتلِ للدفاعِ عن الحَضارة!

 تصميم الآخَر: السلاحُ نبيًا وتأويلًا

ستعودُ أوروبا المليئة بالأنظمة المعرفيّة والثورات الفكريّة وتحييد الفكر عن الطبيعة والألوهة، لإنتاج نفسها كضرورةٍ حضارية استعماريّة لا ينكشف وضوحُها ودورها إلا بتصميمِ نقيضها الجغرافيّ والدينيّ واللغويّ، وحتى العرقيّ، الآن؛ الجنسُ المخترعُ يخترع نفسَهُ وآخَرَه أيضًا، تحدُثُ الرِّدةُ ويعود العرقُ كنظيرٍ للطبيعةِ في أثينا، هُنا يصبحُ العرق الأبيض وصيًا طبيعيًا ودينيًا وحضاريًا و"سلاحًا" فوقُ العالم؛ لأنّه لا يمكن لأحدٍ العيش بدونه.

ستعيدُ أوروبا إنتاج "الإله هيرمس" كإله أسطوري وعقلي، يفهم الأسطورة وهو الأقدر على تَرجمتِها عقليًا، فهو المُؤوِّل الأول للحكمةِ والمعرفةِ والغيب، يَعرف كُنْهَهُ ويَستَجْلِي كُنْهَ الآخرين، فهو الميثوس و اللوغوس في آنٍ معًا. وستصبح أوروبا "هيرمسًا" جديدًا يَفهم الآخَر ويُحلِّلُه تأويلًا يصلُ حدَّ الإلغاء؛ ليسَ غريبًا هنا إذا كانَ اختراعُ السلاح تفوّقًا تأويليًا في القتل؛ لأنّه المعجزة المتفوّقة لإزالة العراقيل الهَمَجيّة من أمام الحضارة والصّفاء وحتى من أمام (الله) كما حدث مع الهنود الحمر؛ إنّ الحضارة تعني في النهاية أنّ تَقْتُلَ وتمتلكَ القدرةَ على القَتل . في تلك المرحلةِ اعتُبِرَ اليهوديُّ "أبيضَ" بطبيعةِ الحال، قبلَ التعامُلِ التراجيديّ مع "الساميّة" ونقيضها كخطيئةٍ وتَكفير، ستصلُ إلى مجموعةٍ من المذابح بحقِّهم ليسَ أفظعها "المحرقة".

 

أوروبا البربريّة.. أوروبا المتحضّرة !

 لم يَكُنْ "أريس"، كميثوس لمعجزةِ الحرب والدمويّة، حالةً منتهية في التفكير الغربيّ، فإنّه ما إنْ يغيب حتى يُحْضِرَه العقل "لوغوس"، ويحضر رمْحَهُ الذي لا يُقهَر وعلى جانبيه ظلُّ الآلهة: الرعبُ والخوف! والاسم هنا، أيْ "أريس" ليس إلا مدلول الانتقامِ والدمارِ اللذين سيحوّلُهما العقل إلى حالةٍ تَطَهُّريّة وضرورةٍ تاريخية. لذلك؛ تصبحُ الحرب ساحةً للعلامات والتجريداتِ الفكرية وليست ساحةً للرماحِ والأجساد. الحربُ ستعود بين متحضّرٍ وهمجيّ، الحربُ رهانُ القوة التي ستلغي كلّ الرهانات، إنها حضور الحياةِ الفائِرِ في القتل والموت، وربما تصبِحُ الفنَّ الأرقى لجمالياتِ المكر والذبح .

ولأنَّ الأسطورة وحدها القادرة على تشخيصِ أمراض العقل، كانَ العقل وحده أيضًا القادر على تأسس منطقيّة "الآلهة"، ويصبحُ العقل هنا مَطيّة وغايةً من غاياتِ توحّش الأسطورة تاريخيًا، وتحويلِ الحرب إلى وسيلة وغاية معًا. لم يكن تأكيد "والتر بنيامين" على ارتباط تصورات الحضارة ولأفعالها لإلا مُناظرًا للفعل البربريّ، وستظل مظاهر الحضارة والبربريّة متأصِّلةً لا تنتهي في ظل التحالف المُزمن بين قوى الحضارة وبين (الله)، كحُسنِ سلوكٍ مُسبق تملكه أوروبا وحلفاؤها، وبينها طبعًا الدّولة/ النبيّ: (إسرائيل). ولعلّ أقسى مظاهر البربريّة خَلْقُ تصوُّرٍ وفرض تسميةٍ على كلّ مَن يعارضها على أنّه "بَربَريّ".

كانت القضية اليهوديّةُ قضيةً أوروبية، وقعتْ بين فكِّ الحضارةِ والمعرفةِ والأسطورة في آنٍ معًا، عندما كتبَ "شامبرلان" في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرن 1899، كتابَهُ "أسس القرن التاسع عشر"، وفيه تأكيدٌ وبرهنةٌ علمية على تفوُّق "العرق الآريّ"، بدا التوتر يحيطُ اليهوديُّ عرقيًا، كونه صاحب دمٍ مختلط، ستتعمق الأزمة أكثر مع تفجُّر صراعِ الحربين العالميتين، وتتكون الخطيئة العلمية والأسطورية معًا في تسمية "الساميّة".

قبل "شامبرلان"، يؤرِّخُ "إدغار موران"، وهو من الأخلاقيين الإنسانيين في الدفاع عن تاريخيّة القضية الفلسطينية وسياسيَّتها، لمؤلَّف "إدواردو درومون" عام 1866 "فَرنسا اليهوديّة"، وفيه اعتبَرَ اليهودَ "كعملاءٍ للشَّر"، وهكذا كانت المحاور الأوروبيّة تنشب مخالِبَها تمهيدًا لبناء مسرحِ التطهير الأسطوري لليهود فيما عُرِفَ بـ"المحرقة"، بين فوبيا عرقيّة وخوفٍ سياسيّ اجتماعيّ مهَّدَ الحربَ للإله "أريس" ليُعْمِلَ رمحَهُ تطهيرًا وتحضُّرًا وقداسةً في مواجهِ الشر: مقولة "هتلر" المزمنة بعد سيطرة النازيّة.

كان "هرتزل"، الرِّدةَ الأولى الفعليّة عن إمكانية الاندماج. لذلك؛ كان على اليهود البحث عن دولتهم الخاصة، من هنا كانت المؤامرة التكفيريّةُ بحذافيرها، كانَ اليهود ينتجون أسطورتهم بتحالُفٍ أكثَرَ وقاحةً مع (الله)، وعلى الفلسطينيِّ أن يدفَعَ ثمن الأسطورة بقرارٍ من العقلانيّةِ الغربية كلِّها: متدينها وملحدها وعلمانيها وحتّى شواذّها.

لم يكُنْ "الهنودُ الحمر" قبل ذلك، إلا ضحايا مقدسون للسلاحِ الجديد، فهم بشرٌ ناقصو الأهلية؛ لأنّ المسيح لم يذهب إلى تلك الأرض، والموريسكيون مُرتدّون ملوثون، دمهم وحده الكفيل بتطهيرهم من خطورة الردة والتمثّل والتمثيل. لم يكن استرقاقُ العبيد من قِبَلِ فرنسا في الكونغو إلا علامةً بربريّة للحضارةِ التي بنت سكّة الحديد الرابعة بين الكونغو والمحيط، هنا يقدِّمُ "أندريه جيد" اعتذارًا ثقافيًا لشهادته التي اعتذرتْ عن شهادة "شاتوبريان". وفي الجزائر لم تكن أجساد الجزائريين في اختبارِ السلاح النوويِّ إلا استجابةً للرعب والخوف وقداسة السلاح الأثيريّ الجديد، وليس أكثر منها بربرية مجزرةُ صطيف عام 1954 في الأيام الأخيرة للحرب إلا إمعانًا بنرجسيّةِ الطبيعيّ والعرقيّ واللغويّ والاختراعيّ في احتفاليّةِ التفوّق بالقدرة على القتل.

 

"هابرماس": لعنة البُنْية ثانية!

لم يَتَسنَّ الاطلاعُ على المواقف الدقيقة لـ"هبرماس"، لكنّ ما جاء في مجمله يَشي بعودةِ لعنة البُنْية ثانية، فـ"هابرماس" الذي أمضى حياته في التكفير عن خطيئة النازيّة، وتبعًا لذلك حدَّد مساره الفلسفيّ بمقاومة قَسريات السلطة وتشوهات الأيدولوجيا، يَقَعُ ثانيةً في رِدّة البُنْية فريسةً لكليهما، فالقرابينُ لم تَعُدْ مقدسةً، ولا هجاءَ للقتل، بل مديحٌ للقاتِلِ ثانيةً. إنّها حفلة الولاء للأسطورة المتجددة، العرقُ الأسمى، رخصةٌ، يمنحها العرقُ المتفوّقُ لضحيته. رِدّةٌ لا تليق في نهايةِ العُمر!.

 

"صموئيل" والسّلاح: الضحية تتبارك من قاتلها!!

لم يكن استحضار "صموئيل" في خطاب قادة دولة الاحتلال بعيدًا عن "هيرمس" الحكيم أو "أريس" القاتل، فهو اسمُ (الله) المسموعُ من (الله): "لأني مِن الرَّبِّ سألْتُهُ" مقولة الوالدة، فسمع (اللهُ) واستجابَ، فهو المعجزةُ الأسطورية التي ستخلُقُ المعجزة التّقْنِيّة، بعد أن مَنَحتْ أوروبا الكفارةَ لذبيحَتِها اليهوديّة حقَّ المحاكاةِ في اختراعِ ذبائِحِها الفلسطينيين، في استنساخٍ لا جُغرافيٍّ ولا تاريخيِّ لأسطورةٍ أقلّ من تَخْييلٍ وأكبر من خُرافة. فقد حضر "صموئيل" لملاقاةِ الفلسطينيين بالقربِ من المكان الذي أخذ من التابوت، "فأرْعَدَ الرّبُّ بصوتٍ عظيم"، فانكَسَرَ الفلسطينيونَ أمام "بني إسرائيل".

 هنا لابدَّ من إعادة الأسطورة بتقمُّصٍ حضاريّ بَربريّ، فاستدعاءُ العالَمِ المتحضِّر ليسَ ادعاءً قِيَمِيًا كما يتمُّ التوهمُ فيه، إنه تعبيرٌ عن استنساخِ الضحيّةِ للقاتِلِ بشكلٍ أكثَرَ دمويّةً، في درسِ بلاغةِ السلاحِ الذي دفَعَ للانتصار، فلا قرابينَ بديلة إلا مَن قيل عنهم باسمِ الرَّبِّ (الصامِتِ): أعداءُ "صموئيل"، لا عقلانيَّة غيرَ عقلانيّةِ السلاحِ، ولا أسطورةَ حول قداسةِ القتل أو دناسَتِهِ، القداسةُ تكمُنُ في القاتِلِ النبيِّ، والدّناسَةُ في الذبيحةِ الملعونَةِ لو كانتْ طِفلًا أو امرأةً أو شيخًا.

(ليَعُدْ سيفُ "صموئيل" و"يوشع" ولتُنفَّذَ الوصايا بقتل الأجساد التي يمكن أن تَحوي عقلًا يخترعُ الموت في مواجهة القاتِل، فأجسادُ الفلسطينيين وأرواحهم تهديدٌ مؤجّل، فطالما نملِكُ آلة القطع، دعونا نملِكُ المستقبَلَ والاحتمال؛ بسحقِ الجَسَدِ عدوِّ السلاح، في حفلةِ الموت التي يصفِّقُ لها (الله..)؛ فالفلسطينيونَ "همجٌ" لا يعرفون الأمومة ولا يقتَنون الحيوانات المنزليّة، ولا يُتقنون حفلاتِ الميلاد. في غزة موتٌ أخرس بلا عزاء وبلا أطلال وبلا غُرفِ نوم للأطفال وبلا جنائِز، وعلى الفلسطينيين أن يُسحَقُوا بتَلَذُّذِ القاتلِ المنتقِمِ لأنّهم لم "يُحبُّوا أعداءهم كالجُبناء، ولم يَكرهوا مُحبّيهم كالجاحدين... ماتوا لأنّهم لم يَظلِمُوا الظّالمين".. باستعارةٍ من "جبران" .

طالما أنّنا نملِكُ (الله) والسِّلاح والتّصفيق والمبارَكة من عيونِ مَن يمتلِكُ الحقَّ بتحويلِ الأسطورةِ إلى عرق في "الأمم المتحدة"، فلنقتُلْ إذًا ولنستغرق بإيماننا، وعلى الفلسطينيِّ أن يتذكر أنّه منسيٌ، وإنْ حاولَ امتلاكَ آلةِ القَطع، سيتحوَّلُ الكونُ حوله إلى جحيمٍ، وتصبح "الأمم المتحدة" سيفَ "أريس وصموئيل" معًا).

 

الشواهِدُ تعودُ والعربيُّ فلسطينيًا!

لا أدري إنْ كانَ للروائيِّ أنْ يُؤسِّسَ تناصًا مع نبوءته، فقد حملتْ هذه المواجهةُ النبوءةَ في "وارث الشواهد"، بتحوُّلِ الأسطورة إلى عرقٍ في الأمم المتحدة، وحدثَ الاستبدال بين المختبرِ والهلوسةِ، وبين الفِكر والعِرق، وسقطت الديموقراطيّة إلّا كونها مشورةً حولَ شَكْلِ المَذبح. في "ليتني كنتُ أعمى"، ارتشفنا حلاوة التّصاوُرِ في الاجترار و"الاستمناء" في الحصولِ على متعةِ السّلامِ في ظلِّ الاحتفاظِ بجثثِ الشهداء، وعادَ المُصوّر للحياةِ بعد أنْ فقَدَ عينيه؛ وباتَ يصوِّرُ المعركة في جنين ونابلس، وكان "الحصان المعدنيّ"، الاسمُ الأوّلُ المقتَرَحُ للرواية، يقفُ مُشرفًا على حيفا يُعيد إنتاجَ السلاحِ صامتًا على أجساد الشهداء، ويذكِّرُ الفلسطينيينَ الجُدُدَ بأجدادهم، فاشتعلتْ ثانيةً وثالثةً، لكنَّ المحتلينَ فطنوا إلى خطورةِ تحوُّلِ الأطلالِ إلى شواهد، فقاموا بسحقِهِ، ومازالَ ورثة المعركة الأولى أجسادًا في الحياةِ والموتِ، ...لقد هَدَموا "الحصانَ المعدنيَّ" خوفًا من الأغنياتِ والذّكريات.

في "أرجوحةٍ من عظام" كان السؤالُ المُزْمِنُ: لماذا نركُضُ بأرجُلِنا المبتورةِ ونرسم خيطَ الدّم خلفنا؟ ولماذا لم نعد نبحثُ عن العِلاج؟، فالموتُ يُعيد تعريف الحياةِ في لحظةٍ لتصبِحَ جزءًا من تفاصيله، لا يُمكِنُ الانتصارُ في معركةٍ، تتخذُ قوة السلاح سبيلًا؛ لأنّه في كنيسةِ الرّب ودَيْرِه، (ومحاولة ترهيبِ الربِّ ثانيةً لنْ تُفلح)، لا يُبْطِلُ القدرة على القتلِ إلّا القدرة على الموت. درسُ التاريخِ الذي لم يفهمه العدو، فإذا كانت الحربُ تعيدُ كلَّ إسرائيليٍّ إلى أصله غير اليهوديّ، فإنَّ الحربَ تُعيد الفلسطينيَّ إلى أصلِهِ العربيّ؛ فالتاريخُ الماكر سيعيدُ العربَ كلّهم كفلسطينيين، وهذا وراد جدًا. كانَ الانتحارُ الفلسطينيُّ بأوسلو مكرًا تاريخيًا، لم يلتقطْهُ الاحتلال، وارتَكَنَ إلى رهانِ السّلاح، فكيفَ إنْ عادَ مئاتُ ملايين العرب إلى أصلهم الفلسطينيِّ يحملونَ السلاح، لم يكُنْ السلامُ حاجةً فلسطينيّةً فقط، بل ربما يتحوَّلُ إلى مطلبٍ احتلاليٍّ في القادِم... وربما بعد فواتِ الأوان.

كَياسة القيادة والكرم الفادح: الخسارة مرتين !

في مشهدِ تَفَسُّخِ ألواحِ حصانِ طروادة الأمميِّ الذي أسس تجريديًا لشيءٍ اسمُهُ "القانون الدوليّ" و"الأمم المتّحدة"، حيث تدوسُ النهايةَ المفضوحة للتمثيليّة، وتنشِبُ خطيئةُ الشرعيّة الدولية مخالِبَها في عيونِ أطفال فلسطينَ وغزّة، وفي الوقتِ الذي يزوِّدُ (مُستوطِنٌ وَزيرٌ) مستوطِنيهِ في أرضٍ محتلةٍ بالسلاح، وفي اللقطة الكبيرة لرئيس وزراء الاحتلالِ (عطيّة الله) مع وحداتِ القواتِ الخاصّة التي تقتل الفلسطينيينَ في بيوتهم، وأمام أطفالهم في الضفة وغزة وفي أرضٍ مُحتلةٍ وِفق "الشرعية الدوليّة"، تصبحُ "الشرعية الدوليّة" خدعةً أكبر من حصان، ومفارقةً أصغر من شعر "ميدوسا" الخائنة، ما زالت القيادةُ الفلسطينيّةُ تمارسُ كياسةً تصِلُ حَدَّ (أصنامِ عَرْضِ الملابس) في تكرارِ الحكمةِ والتفوُّق والترفُّعِ عن السقوطِ في دوامةِ "العنف" التي تجرَحُ شُعورَ "الشرعيّةِ الدوليّة"، لستُ أنا بِـ"لَعانٍ او طَعّانٍ" ولا مؤمنٍ بالأساطير رغم قناعَتي بسحرها، لكنَّ ضجيجَ الدمِ وصراخ الأرامل ودموعَ المُقاتلين الذين يُقْتلونَ غِيلةً في عطشِ الوحدةِ تدفَعُ إلى كَسْرِ وضعيّةِ الكَرَمِ الفادحِ في عرضِ بضاعةٍ فاسدةٍ داسَتْ خيولُ الاحتلالِ رقْبَتها و(بالَتْ) على أوْشِحَتِها.

سيكونُ من العقلانيّةِ البليدةِ القولُ بأنّ التاريخَ لم يعُد يستوعِبُ الكِفاحَ العنيفَ، ولكنْ سيكونُ من الكرَمِ الفادحِ القول إنَّ "التنسيقَ الأمنيَّ" مقدسٌ، سيكونُ من الأناقةِ القولُ بأنَّ حقنَ دمِ أطفالنا واجبٌ على القيادة، لكنْ سيكونُ من الكَرَمِ الفادحِ القولُ بأنّنا نفتِّشُ حقائِبَ طلبةِ مَدارسنا، ستكونُ عقلانيةً جارحةً القولُ إنّ ميزانَ القُوى لصالِحِ العدوّ، وإنّ ضعف الإمكاناتِ "وتركَنا وحَدنا" يفرِضُ كياسةَ السياسةِ من بابِ "فنِّ المُمكن"، سيكونُ كرمًا جارِحًا وفادحًا القول بأنّنا نعيشُ "تحت بساطيرِ الاحتلال"، في شعبٍ تعرِفُ القيادةُ أنَّ المقاتلينَ من شَعبها ومن حَرَكَتِها حوَّلوا بساطيرَهُم إلى ينابيعِ دمٍ، وَوَقفوا يتلقون الرّصاصَ بعيونِهم، وأكَّدوا الثورةَ المستحيلة.

سيكونُ مدعاةَ فخرٍ للواجب القولُ إنَّ حقوقَ الشهداء والجرحى مقدسةٌ، وإنَّ كلَّ قرشٍ هو من حَقِّهم، سيكونُ من الكرَمِ المؤلِمِ (في دَمِ الأخِ من أجلِ الغَريب) سؤالُ مقاتِلٍ أصيبَ بجروحِ الاشتباكِ دفاعًا عن بيته الواقِعِ في أرضٍ محتلةٍ وفقَ "الشرعيّة الدوليّة" إنْ كانَ استجابَ للأوامِرِ القيادية، هل يُستشارُ شهيدٌ مؤجَّلٌ أمام قاتله؟!

"القيادةُ الفلسطينيّة" وهي تحمِلُ في معظمِها شهادات في العلوم السياسية تمارس كَرَمًا باذِخًا عندما تتحدّث عن "الشّرعيّة" باسم "منظمة التّحرير" التي بَنَتْ شرعيَّتها على الثورةِ والانتخاب، في حين تدوسُ "القيادَةُ" رقبة الثورة وتخنق شرعيّتها الانتخابيّة عندما تتحولُ عباراتها (الكاريكاتويّةُ) عن الحمايةِ الدوليّةِ إلى نُكَتٍ لطلبةِ المدارس، وتقول لأيّةِ كتلةٍ في الرأي: مَنْ منكم الجريءُ ليدافِعَ عن الاستجداءِ في مقابِلِ الفداءِ الذي حَضَرَ في أزقة نابلس وجنين وطولكرم والخليل ورام الله وأريحا وبيت لحم وغزة!. مئاتُ الشّهداء (سقطوا) أمامَ مُغتاليهم في بيوتهم، وأمام أطفالهم، لكنَّ كَرَم "القيادة" وكياستها لم يَكُنْ بالجُرأةِ ليدافع عن "شَرعيّةِ" دَمِهم، بل كانَ يُسائِلُهم حول الانضباطِ العسكريِّ!. لذلك؛ فـ"القيادةُ" تدوسُ شرعيّتها بخطابِها الذي بدَّلَ فِعله، مِن رفعِ وتأطيرِ قوّةِ الروح العامّة بعد تدميرِ الجسدِ تبادر، إلى سحقِ روحها وتدميرِ (ليسَ واقِعِها) بَلْ إرثِها الذي لا تمتلكُ حقَّ التصرفُ فيه، فهوَ ليسَ أملاكًا خاصة!. إنّ حركة التّحرر الوطنيّ بتنظيماتِها هي التي أعطت للفلسطينيينَ الأغنية والثورة والهوية عبر ألافِ الشهداء والعذابات. لذلكَ؛ فهي ليست بيدقًا باذخًا في نرجسيّةِ الشرعية، فالقيادةُ فَناء في المجموعِ وليستْ تعاليًا عليه.

سيكونُ من عقلانيّةِ السياسةِ الحديثُ عن بناءِ الذاتِ، وتحويل الجهدِ إلى المدارس والجامعات والتنمية البشريّة، لكن ذلكَ لم يحدث فقد تمَّ (تحييدُ) الكثيرِ من الملهمينَ والمناضلينَ؛ لأنهم لم يُقْسموا بالولاءِ وخَرَجوا عن الإجماع، ورأينا الحركةَ الوطنية تتحوّلُ إلى (كيانٍ) يشبِهُ إلى حدٍ ما "جمعيّة أصدقاءِ الرّئيس".

لنْ يكونَ من زائِدِ القولِ هُنا، أنّنا وُعِدنا من قِبَلِ "قياداتِنا" بالمأسَسة بديلًا عن الفرديّة، لكنَّ الذي حدَثَ أنَّ الفرد تحول إلى مؤسّسة، وباتت "القيادةُ" تستنسِخُ نفسَها بقادةٍ جُدد، لا يملكونَ حتّى الأقدميّة الزمنيّة ولا فَرادة الأداء، بل اكتفوا بسباقِ الولاء، فرأينا قادةً في السياسةِ والأمنِ والإعلام بمهامَ ثنائيّةٍ وثلاثيةٍ ورُباعية وسُباعية، حتّى تبدّلت الوجوهُ المضيئةُ بوجوهٍ (شَوهاء) لا تَستُرها حتّى الأقنعة!.

التكفير الوحيد للقادة الفلسطينيينَ (سُلطةً وسُلطةً) ومَن يُعارِضُهما، بعد هذا الخَراب الذي وَسَم حياتَنا، هو محاولةُ النّظرِ إلى المستقبل، ليتوقفَ سباقُ النقائِضِ الأيدولوجيّة والفقهيّةِ الفلسطينيِّ، وعلى القادةِ إنْ سَمِعُوا صراخَ الأرامل وأنّات اليتامى أن يَتَّفِقُوا على مرجعياتٍ لتعريفِ أنفسهم، وتحديدِ أهدافهم ومصادِرِ شرعيَّتِهم، وإلا فأماهُمْ خيارات ثلاثة: إمّا أن يَخْرُجوا مِنّا، وإمّا أنْ نَخرُجَ مِنهم، وإمّا أنْ نَخْرُجَ عَليهم.

قالَ "الرئيسُ" في إحدى مقابلاته: "إذا خَرَجَتْ مظاهرةٌ ضِدي، سأستقيل". الآن، وفي آخِرِ استطلاعٍ يُطالِبُ نحوُ 90 بالمئةِ من الفلسطينيينَ "القيادةَ" بالاستقالة، وتطالب دُوَلُ "الحَضارة" بإعادةِ هيكلة (السُّلطة)، فليكُن "بِيدي لا بيد عمرو"، وليُوْكَلْ الأمرُ إلى قيادةِ السّجون، ولتتشكَّل قيادةُ طوارئ وطنيّة، ولتَكُنْ وصيةُ "القيادةِ" الأخيرة إغلاقَ الباب في وجهِ العالم، حتّى لا تخسَرَ "القيادَةُ" مرّتين للمرةِ الأخيرة.

الفلسطينيونَ: مِن تحريرِ "الوطن" إلى تحريرِ (السُّلطة)!

لم يكُنْ الأداء الخطابيّ والسياسيُّ لـ"القيادةِ" الفلسطينيّة إلا مدرسةً لتعليمِ الخسارة المزدوجة، كما تقولُ هي نفسها، صَمدت في وجهِ الضغوطِ، وقالت عن نفسِها أنّها: "بِلا حيلة"، وقدَّمَ شَعْبُها الشهداءَ، وقدمت حركَتُها الوطنية القسمَ الأكبَرَ منهم، لكنّها خَسِرَتْ شَرَفَ دَمِهم في النِّدْيّةِ أمام العَدو، وأصبح دمُهم معيارًا في "الشّرعيّة" أمامَ الخَصم، قدمت كما تقولُ هِيَ، المُتونَ، لكنّها خسِرتْ نفسها في العَناوين.

ما تشهَدُهُ الحالةُ الفلسطينية من رِدّةٍ في العلاقاتِ التي كان الانقسامُ الفلسطيني ثمنًا تطهُّريًا لها (للرِّدة هذه)، قدِّمَتْ خلَاله القرابينُ والضّحايا، و(كاتِبُ هذا المقالِ) ليسَ داعيًا ولا قاضيًا؛ إنّما يُدوِّنُ المكشوفَ الذي حاول الإعلام إخفاءه مرّةً وإظهاره مرات، كما "القِيادة" عمِدَتْ "قِيادةُ الرَّفض" الفلسطينيّة إلى وَسْمِ الانقسامِ الفلسطينيّ (الانتحاريّ) بــ"الحَسم"، أمامَ الفئة الدمويّة والقاتلة الاستئصالية. هذا تدوينٌ وليسَ ادّعاء أو دفاع، الحراكُ الذي نراه سافرًا اليومَ يعيد تعريفَ العلاقاتِ من التّضادِ إلى التّحالف، دونَ أيّة إمكانيةٍ لاستردادِ الدّمِ والشّرف بأثرٍ رجعيّ، (اللّهمَّ من الدِّياتْ)، هذا الحِراك، في عواصِمَ لا تعْصِمُ من القَواصِمِ، يدفعُ لتشاؤمٍ عقلانيّ، مفادُهُ أنَّ الفلسطينيينَ، أو قسمٌ منهم، استبدَلوا تحريرَ الوطن والأرضِ بتحرير السّلطة، ربما أولًا، في سبيل ثانٍ، ربما لن يأتي أبدًا.

 الكرامة كتأويل!

لَنْ أشعُرَ بالفخرِ كفلسطينيّ، ولن تُسعِفَني الحتمياتُ لقبول صراخِ نسائنا وأطفالنا بعد كلِّ هذه المآسي طلبًا للطحين، ولا الاستجداء طلبًا للماء، كلُّ البلاغةِ لن تُسعِفَ أطفالَ غزةَ المرتجفين، ولا الأطفال العائدين فارغي الصحون من طوابير الانتظار لقِدْرِ الحَساء.

 في درسِ التاريخِ تُخْرِجُ المآسي الأبطال الذين يصنعون كرامة شعوبهم، لن تُجدي الاستعارةُ هُنا في تأويلِ طلب الكرامةِ من المعتصم؛ المُعتَصِمُ استعارةٌ هُلامية، لَنا هنا وُزراءُ وخلفاء، الأجدَرُ أنْ تَصِلَ مَسامِعَهُم. إنَّ تقشُّفَ كرامتنا في السؤال لا يتماشى مع بَذَخِ الألقابِ والمُسميات من وزيرٍ إلى لواء، وتصميمُ الفلسطينيينَ حتّى الآن في رفعِها وتثبيتها، (في الوطَنِ كلّه)، يُنْذِرُ ببروزِ نرجسيّةٍ من طورٍ غريب!! لا يحتجُّ أحدٌ بوحشيّةِ العدو، هل هناك مَن يخوضُ حربًا، ويَرْكَنُ فيها إلى أخلاقِ عدوّه؟! كيف وهو الذي نعرفه جيدًا.

هل ننتظر خمسينَ عامًا ليصلَ الفلسطينيونَ إلى مرجعيّةٍ واضحةٍ لتعريف "الشّرعيّة"، أم سننتظِرُ خمسينَ عامًا أخرى لنراهم يُقاتلونَ سويةً ويحاربونَ جَماعة. على مَن يقودونَ هذا الشّعب، (الذي كانَ سابقًا لقيادته)، أن يُقرِّروا: متى تستعبِدُهم النصوصُ ومتى تقودُهم متطلّباتُ الواقع!

 

الفضائياتُ العربية: الشاعِرُ والفقيهُ والمفكِّرُ والعسكريُّ.. مُخرِجون!

على الجمهورِ أنْ يصطفَّ مساءً ليرى ما يُريد، لا ما يَحْدُث، سيرى الراثي أهمَّ من الشهيد، والمحلِّلَ أهمَّ من القبر، سيرى كيف تمنَحُ زيارةُ ممثلِ الأمنِ والاغتيالِ في دولةِ الاحتلالِ العارَ لعاصمةٍ إنْ نَزَلها ، في حينِ تمنَحُ عاصمةٌ أخرى له الشَّرَفَ إنْ استَضافَتْه، سيرى الشُّعراء عسكريينَ، والمفكرونَ يوزِّعونَ "صُكوك الغفران"، يتحالفونَ على فتاوى، مفادُها: متى يجبُ على النّاس أنْ تموتَ من أجلِ المُقاتل؟، ومتى على المُقاتِلِ أنْ يموتَ من أجل الناس؟، ومتى على السّلطة أن تحمي رعاياها؟، ومتى على الرّعايا أنْ يحموها؟. سيتسلَّلُ المحلِّلونَ والناطقون والمفكرونَ خِلْسةً، ليَرَوْا ما علَّقَتْ الجميلاتُ على بطولاتِهم، وسيراقبونَ جدولَ المنحِ والترقياتِ، وبرنامج الزيارات الفكريّة التحرُّرية وسيشرحونَ، أو بَعْضُهم، عن الديالكتيك ومفهومِ الطغاة، وهم لا يعرفونَ الفرقَ بين تجارةِ التأويلِ وتجارةِ الجثث، سيشرحونَ كلَّ ذلكَ وسيقنعونَكَ أنَّ المستعمراتِ تصبحُ ثوريةً أنْ امتلكَتْ صورًا ثَوريةً، وأنَّ الصراخَ أمام الطغاةِ أفضل من الصراخِ تَحتهم، سيكونُ لكرَمِ القيادة فائدةٌ واحدةٌ، وهي أنَّ كشفَ الترقياتِ والمكافآتِ سيزدادُ أمام مفكّري الدفعِ المسبَقِ بالقطعة، فقد أثبتوا الولاءَ بشتمِ القادة أمام الأمراء. لقد تحوَّلت بورصاتُ الإعجاب وهدايا المذيعاتِ الأنيقة من غرفِ الملابس إلى قضيّةٍ وجودية... ترى التعليقات على صورِ الجثث والدمار.. "انتَفِضي أيّتها السّماء".

في الليلِ نفسِهِ، ستبرُدُ قبور أهل غزة وجروحهم، والحلمُ يبقى بزيارةِ قبورِ الأطفال صباحًا؛ لفكَّ الوحدة. هذه الوحدة التي ستطولُ، فالجروحُ بِلا مراهِمْ، والأجِنَّةُ يصارعونَ الطبيعةَ لخروجٍ لا تَرْغَبُهُ الأمّهات، ولا نظرة أخيرة؛ فالعيونُ ملأها الطينُ، وويلٌ لكَ إنْ صرختَ على أناقةِ الأستديو بالقولِ: ما لكَ أنتَ إنْ تَموت..... 

أستعيرُ من الضّريرِ الشّاعر "عبد الله البردّوني":

|من ذا هنا.. غير الأسامي الصَّفْرِ تصرخُ في خُفوت

غير انهيارِ الآدميّةِ وارتفاعِ "البنكنوت"

وحدي ألوكُ صدى الرّيح وارتدي عُري الخبوت|.

 

* روائيّ وأكاديميّ فلسطينيّ



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد